وكالة أخبار المرأة - 8/1/2025 4:30:24 PM - GMT (+3 )

تتّخذ البنى السّرديّة أشكالاً متنوّعة بتنوّع الأنواع السّرديّة، وتنتج خطابًا دالاًّ متمفصلاً، يستندُ إلى وجهة نظر الرّاوي ومرجعيّته الثّقافيّة، وتنتج بذلك علاقة تتابعيّة للأحداث من واقع معلوم، وبداية معروفة إلى نهاية متوقّعة، ولعلّ هذا يضطرّنا إلى التّركيز على التّمفصلات الزّمنيّة للخطاب، التّي تتوزّع بشكل ليس اعتباطيا؛ بكشف دلالاته وأبعاده، ثمّ الانتقال إلى تحديد بؤرة الزّمن في السّرد بوصفها محوراً يتمّ من حوله بناء الحبكة السّرديّة وتتطوّر الأحداث، بخاصّة عندما يكون هناك ملمح عميق للوحدات السّرديّة، يعني ذلك أنّ الزّمن الذي يتمّ اختياره يساهم في تعميق فهمنا للشّخصيّات والأحداث والسّياق بشكل عميق، على وفق حالة من هذه الحالات:
- بؤرة الزّمن المتعدّدة: عندما يتمّ تقديم الأحداث من عدّة زوايا زمنيّة مختلفة، مثل السّرد غير الخطّي، حيث يتمّ تقديم الأحداث غير تسلسليّة، ممّا يساعد على فهم أعمق للشّخصيّات وتطوّرها عبر الزّمن.
- الزَّمن كشخصيّة ثقيلة: عندما يتمّ استخدام الزمن كعنصر مؤثّر في تطوّر الشّخصيّات، حيث يتغيّر تأثير الزّمن عليهم، ويؤثّر في تطوّر شخصيّاتهم واختياراتهم.
- الزّمن كمرآة للمجتمع: عندما يعكس الزّمن الأوضاع الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة للمجتمع، الذي يدور فيه الحدث، ممّا يمنح القراء فهمًا أعمق للسّياق الذي تدور فيه الأحداث.
- الزّمن كوسيلة للتّعمّق النّفسيّ: عندما يتمّ استخدام الزّمن لاستكشاف عوالم داخليّة للشّخصيّات، ممّا يساعد على فهم أعمق لدوافعهم النّفسيّة، وتحوّلاتهم.
بالإضافة إلى ذلك، بؤرة الزّمن قد تكون أيضاً نقطة تحوّل مفصليّة في السّرد، حيث يتغيّر اتّجاه القصّة، أو تتّضح دلالات جديدة بفضل تركيز الكاتب على هذه اللّحظة الزّمنيّة المحدّدة، التّي ينتجُ عنها ملمحًا خاصًّا عميقًا للوحدات السّرديّة من خلال استخلاص العلاقة التّي تربطها بالموقع السّرديّ الذي تتموضع فيه، ممّا ينتج عنه أشكال التّمفصلات الزّمنيّة المتنوّعة، وتبدّلاتها ضمن السّياق النّصيّ بمراعاة الزّمن، وتقسيم الوحدات السّرديّة بمراعاة حدود الجملة: (إنّ المقاطع السّرديّة هي الوحدات السّرديّة الصّغرى، وتستوعب بدورها مقطوعات سرديّة أصغر أي أنّ للوحدة السّرديّة قابليّة للتّقسيم المتعدّد، الذي يمكن أن ينتهي عند حدود الجملة. بتحديد المقطع السّرديّ، ومراعاة ذلك في تقسيم الوحدة، وهو نفسه ما يراعى في تقسيم المقطوعة بفارق بسيط، وإن أساسيّا، ويكمن في كون هذا التّقسيم ينطلق من التّركيز على البعد الزّمنيّ... أمّا الموقع الزّمنيّ، فقد احتفظنا له بالمصطلح ذاته الذّي استعملناه في تحليل التّمفصلات الزّمنيّة الكبرى. ونقصد به، هنا، التّبدّلات الزّمنيّة التّي تتمّ في إطار المقطع السّرديّ. وهذه التّبدّلات هي التّي ركّزنا عليها في تقسيمنا المقطع السّرديّ. وإذا كانت المواقع الزّمنيّة في علاقتها بالوحدات مقطّعة بحدود الإشارات الزّمنيّة – التّاريخيّة (السّنوات التّي يزخر بها الخطاب) فهي هنا، محدّدة بالمؤشّرات الزّمنيّة التّي نقسّمها قسمين رئيسيين:
- المعينات الزّمنيّة (الآن- أمس- غدا- بعد غد...)
- أزمنة الأحداث في اختلاف بعضها عن بعض، إمّا عبر الانتقال من حدث إلى آخر، دون أيّة إشارة من جهة، أو باستعمال المعينات الزّمنيّة، التّي تصبح تلعب دور التّمييز بين أزمنة وقوع هذه الأحداث أو تلك، من جهة أخرى...) وتجدرُ الإشارة إلى أنّ الصّلة التّي تربط بين المقاطع وموقعيّاتها من شأنها تحديد التّبدّلات الزّمنيّة المختلفة، وتتمظهر الخطّيّة من خلال تتابع المتواليّات الزّمنيّة ممّا يجعلها متتابعة ومتلاحقة.
ولعلّ العمليّة السّرديّة في رواية (الطّليانيّ) لشكري مبخوت، قدّمت مشهدًا افتتاحيًّا لأحداث تاريخيّة وحقبة من التّاريخ التّونسيّ في القرن العشرين في تدرّج زمنيّ لمقاطع سرديّة؛ رغم أنّ الشّخصيّة الرّئيسة (عبد النّاصر) مركّبة وعميقة الأفكار والدّلالات، مع ذلك نجد الإقناع بالشّخصيّات جميعها قولاً وفعلاً، استنادًا إلى أنّ "الشّخصيّة المركّبة" في الرّواية تتميّز بعمق نفسيّ وتعقيد في السّمات والسّلوك. ويعدُّ هذا النّوع من الشّخصيّات أحد أساليب الكتّاب لجعل الشّخصيّات أكثر واقعيّة ومثيرة للاهتمام، ممّا يجعل القارئ يتفاعل معها بشكل أعمق.
ولعلّ ما تتميَّزُ به شخصيّة رواية الطّليانيّ أنّها أيضًا تميلُ إلى التَّعقيد والتَّناقض بالنّظر إلى ما تحمله من سمات متناقضة. وغالباً ما تتطوَّر عبر مجرى القصّة، حيث يمكن أن تتغيّر آراؤها، وتتطوّر معرفتها الذّاتيّة، وتتعلَّم من الأحداث التي تمرّ بها. وتبعًا لذلك يزيد هذا التّطوّر من واقعيّة الشّخصيّة ويجعلها أكثر قابليّة للتّعاطف والتّأثير على القارئ، بدواعي، ودوافع داخليّة عميقة ومعقّدة، تحكم سلوكها وقراراتها. وقد تكون هذه الدّوافع نتيجة لتجارب حياتيّة سابقة، أو صراعات داخليّة تواجهها الشّخصيّة؛ بالإضافة إلى الاستجابة للظّروف من حيث التّكيّف مع التّحدّيات المختلفة بطرق متعدّدة ومعقّدة، ممّا يجعلها أكثر واقعيّة في ردود أفعالها وسلوكها، التي من شأنها أن تشعر المتلقّي بالجاذبيّة العاطفيّة نحوها ويتفاعل مع مختلف جوانب شخصيّتها، سواء أكانت إيجابيّة أم سلبيّة؛ على نحو ما نجده في شخصيّة هاملت في مسرحيّة شكسبير، التي تتميّز بالتّعقيد النّفسيّ، حيث يتغيّر مزاجها وقراراتها بسرعة، وتتأثّر بصراعات داخليّة عميقة؛ وفي ضوء ذلك فإنّ ما يلاحظ من خلال التّمفصلات الزّمنيّة الخطّيّة أنّها محكمة المشاهد من بدايتها إلى نهايتها، وذلك ما جسّدته شخصيّاتها المتنامية، التّي تبدأ من ماضيها الذّي تعترف به، وتقرّ بكلّ ما فيه، ولا تتنكّر له.
وتأسيسًا على ذلك فإن ما يُسهم في إثارة القارئ توظيف التّجريب، بوصفه عنصرًا فاعلاً ومؤثّرًا في النّقد الذّاتيّ، وتنوّع طرائق السّرد باعتماد البنى الزّمنيّة في خطّيّة سرديّة من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، وهذا ما يؤكّد السّعي التّجريبيّ النّاتج عن ثقافة الرّوائيّ الواسعة، ووعيه العميق؛ وقد يمتزج هذا مع مفهوم التّجريب، بوصفه مغامرةً فنيّةً وعقليّةً وروحيّةً، تستطيع تلبية جميع المستجدّات لتربط الأفكار والتّصوّرات، وهذا ما كان في رواية الطّليانيّ، التّي انفتحت تمظهراتها السّرديّة في خطّية زمنيّة؛ لمقاطعها ضمن سياقات معرفيّة وثقافيّة، مستعينة بالمنجزات الفنيّة كمرجعيّة لبناء تشكيلاتها وبناها السّرديّة المتنوّعة ضمن دلالات مفتوحة، بتجاوز الكائن إلى ما يمكن أن يكون. ويمثّل هذا الانفتاح واقعيّة جديدة ترتكز على معطيات متنوّعة شكّلت أنساقًا بعينها، هيمنت للإفصاح عن دلالات ناجمة عن اهتراءات اجتماعيّة، أو سياسيّة، أو غيرها من الصّراعات الممتدّة التّي تنطلق من واقع بعينه، لتصل إلى آخر جديد في شكل نمط يرفض جميع أنواع التّسلّط التّي تحكم هذا الواقع.
ب- الطّريقة الارتداديّة:يقوم جلاء خصوصيّات الرّؤية السّرديّة على تمفصلات تلك الرّؤية؛ للكشف عن مختلف أشكال الخطاب السّرديّ، ولعلّ ذلك يعيننا على رصد التّمظهرات المتنوّعة للمقاطع السّرديّة، ضمن سياقات مركّبة على مستوى الرّؤية السّرديّة، وبفضل ذلك ينتج عن قراءتنا لتلك المقاطع السّرديّة عدّة قراءات في ضوء الرّؤية السّرديّة؛ تبعًا للعلاقة التّي تحكم الرّؤية والبنى المقطعيّة، واستنادًا إلى مختلف التّبدّلات الصّيغيّة الزّمنيّة في الانتقال من رؤية إلى أخرى في ضوء مؤشّرات سرديّة يحكمها السّياق، ودلالاته الزّمنيّة، وهذا ما يندرج ضمن التبدّلات السّرديّة، والتّعالق الحاصل بين الصّيغ الزّمنيّة في حركيّتها الارتداديّة، وما ينتج عنها من رؤى سرديّة، ولعلّ هذه الملامح تحدّد تعدّد الصّيغ الزّمنيّة في العمليّة السّرديّة، وتبدّلاتها في الممارسات السّرديّة، بربط التّبئير بتلك المقاطع الصّيغيّة، ونشيرُ في هذا السياق إلى أنَّ رواية (العشق المقدنس) لعزّ الدّين جلاوجي، تُجسِّد من خلال تمظهراتها السّرديّة الزّمنيّة ارتداد الأحداث من الحاضر رجوعًا إلى الماضي بشكل مفاجئ، حيث يتجسّدُ السّرد التّاريخيّ في هذه الرّواية على انتقال الكاتب من الزّمن الحاضر للجزائر إلى الزّمن الماضي لمدينة تيهرت، وهي فترة الدّولة الرّستميّة وعصر الدّويلات، وهذا ما يمثّل استرجاع حركة الأفعال وتمثّلات حركيّتها الزّمنيّة بسرد قضايا الفتنة، وما ساد المجتمع الجزائريّ من أحداث، والرّجوع إلى الماضي والتّوغّل فيه، ما هو إلاّ وعي بقضايا الحاضر؛ ليكون التّاريخ صورة تجسيديّة لحاضر أحداث الرّواية، وقد اعتمد الروائي هذا الملمح السّرديّ الزّمنيّ الارتداديّ الذّي ينطلق من الماضي، وتعقّب أحداثه بتدرّج، لتّأكيد صلته الوثيقة بحاضر النّص، وبذلك تمكّن الروائي من ترك مساحة للقارئ لممارسة العمليّة التّأويليّة؛ لاستخلاص ملامح المجتمع الجزائريّ ومن خلاله المجتمعات العربيّة، واستكناه جوانب ذاكرته الإنسانيّة، وتلخيصه لمتواليّات سرديّة في وصفه للفتن، التّي تلاحق الإمارة، والاضطرابات الفكريّة والسّياسيّة، المعبِّرة عن الوطن المطعون والمغدور من أبنائه، لما شابه من اضطرابات، وشَحناء، داخليّة مريرة ومخزية وشائنة، وسرده لمشاهد الفتن من التّي تمثّل مِحن التّاريخ العربيّ، وفي ذلك تصوير لأزمات الذّات ومعاناتها بين الماضي والحاضر، ولعلّ ذلك يشير إلى خضوع المتخيّل للمفارقات الزّمنيّة في أبعادها الدّلاليّة المتباينة.
ت- الطّريقة المنعرجة:يرتبطُ مفهوم التّعريج بنمطٍ من أنماط الخطوط المستقيمة والمنحنية المتناوبة، ويستخدمُ في الغالب لوصف حركة كائن، أو مسار، وتشيرُ الكلمة إلى الخطوط المتعرّجة التّي تحمل دلالة التّحرّك، أو تغيير الاتّجاه بشكل مفاجئ، أو بشكل متكرّر. وفي مجال البرمجيّات يستعمل للدّلالة على خطأ في مكان معيّن في الشّيفرة البرمجيّة، ممّا ينجمُ عنه توقّف تنفيذ البرامج المختلفة.
وفي ضوء ذلك، فإن خلاصة دلالة المنعرج تغيير أو تحوّل في الاتّجاه بشكل مفاجئ، ومنه تغيير الأحداث، وهو ما يعنينا في هذا الموضع من البحث، والمقصود منعرجات التّمظهرات الزّمنيّة في النّص الرّوائيّ، التّي تتحقّق حينما تتداخل الأحداث في شكل حلقات، وتكون إمّا منتهية أو متوقّفة من النّاحية السّرديّة – كما سبق ذكر ذلك – ولعلّ ذلك يحيلنا إلى سؤال الهويّة في الكتابات السّرديّة الحديثة، ممّا يفسّر الطّفرة النّوعيّة في الرّوايات العربيّة التّي تركّز على أزمة الهويّة بنوعيها الفرديّة والجماعيّة، ويمكن حصر تلك الأزمة في مستويات أهمّها انهيار الأوطان، وما صاحبه من مظاهر الدمار، ومآسي التّعنيف والتّهجير، كما في أحداث الرّبيع العربيّ، وما نجم عن ذلك من انعكاسات على الوعي العربيّ، وتأزّم الأفكار الإنسانيّة؛ ممّا أدّى إلى تنامي الوعي الرّوائيّ وتجسيد ذلك من خلال العمليّة الإبداعيّة. وكان بول ريكور Paul Ricœur قد أشار إلى ذلك في تفصيل حديثه عن الهويّة السّرديّة، حينما تناول فكرة كيفيّة إعادة الإنسان إنتاج وعيه وشخصيّته؛ وفق نسق لغويّ سرديّ يُسهمُ في تجديد ما يسمّى بالذّاتيّة الثّقافيّة في صلتها بالمراحل التّاريخيّة المختلفة، وممّا يمكن التّمثيل له قبل فترة الرّبيع العربيّ من روايات، نذكر رواية الطّريق لنجيب محفوظ التّي نلمس من خلالها تصويره للشّخصيّات المتعرّجة؛ فهي رواية تلخّص أحداث حياة الشّاب المصريّ صابر، وبدأت الرّواية بوفاة والدته التّي كانت تحبّه كثيرا، وذلك بعد معاناتها مع المرض؛ حيث رسمت له طريقا محدّدا لكي يتّبعها ويلتزم بحدودها وضوابطها ولا يحيد عنها، ولكن ظروف عيشهما، ونشأة صابر بلا أب في حياته، وممارسات والدته للرّذيلة؛ بحجّة أنّها تؤمّن له احتياجات حياته حتّى لا يحتاج إلى غيره، وهذا ما أسهم في ضياعه وتدميره؛ لأنّه عاش حياته متوانيًا، متقاعسا، حتى أنه لم يكمل تعليمه، ولم يتعلّم مهنة، ولا صنعة، فكانت منعرجات طريق حياته تتأزّم بعد مصادرة أموال والدته، التّي جمعتها له طيلة سنوات في تلك المهنة.
وتستمرُّ أحداث رواية الطّريق في تمظهرات سرديّة زمنيّة بين حاضر يرجع إلى الماضي، ومنجز يستحضر المستقبل، وقد تجسّد هذا الأخير من خلال وصيّة أمّ صابر حينما علمت أنّها ستفارق الحياة، وأنّ ثروتها لن تكون من نصيب ابنها، الذّي سخّرت له سنوات من عمرها لتحفظ له كرامة العيش من بعدها، ممّا اضطرّها لتخبره أنّ والده حيّ ووضعه المادّي يسير، وأن يلحّ في البحث عنه لإيجاده؛ وينتقل من القاهرة باتّجاه الإسكندريّة، ليتعرّف إلى امرأتين: إلهام، التّي تفهم أنّه يبحث عن والده للعيش معه، وتساعده في نشر إعلانات لإيجاده؛ وكريمة، زوجة صاحب الفندق، الذّي كان يقيم فيه، التّي تتوقّع أنّه يريد البحث عن والده من أجل المال فقط، ولا يهمّه التّعرّف إليه، بل يريد أمواله. ونشأت بينهما علاقة، بحيث كانت بدورها ترغب في قتل زوجها من أجل الحصول على أمواله، فيقوم صابر بقتل كريمة ويدخل السّجن.
وكانت رواية الطّريق بين سرد منعرجات الحياة المتنوّعة، التّي تتلخّص في ضرورة تقدير الأشياء، ووجوب الحفاظ على الكرامة والعيش الهنيء، الذّي أراده صابر بلا تعب وبلا عمل، واختار بذلك طريق الكسل والتّهاون والتّهوّر؛ فكان المنعرج الأوّل يتأرجح بصابر بين العمل والكسل، والطّريق الثّاني منعرج جريمة القتل والنّهاية المؤلمة بدخوله السّجن؛ ليجد حبل المشنقة في انتظاره. وهذه المنعرجات السّرديّة تمثّل رمزيّة الحياة، وأنّ لطريق الإنسان منعرجاتٍ، وفيها خيارات، وطرق للعيش، وكلّها تؤدّي إلى نهايات حتميّة، وفي الأخير تنتصر الفضيلة على حساب الرّذيلة المؤدّية إلى الهلاك. ولعلّ هذا الوصف السردي يرتبط أساسًا بسؤالَ الحياة، ومنه استخلاص منعرجاتها، وأنماطها بتنوّع التّجارب الإنسانيّة، التّي تجسّدها التّجربة السّرديّة للكاتب، وتكون مسوّغا لسرد الأحداث وتمظهرات الواقع وعلاقته بالتّداعيات السّرديّة، وصلته بتدفّق السّرد وانسيابه في النّص.
كما نلمس هذه التّمظهرات الخطّيّة المنعرجة في روايات عربيّة معاصرة كثيرة، منها رواية ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفوريّة لواسيني الأعرج؛ بحيث كشف عن دور التّاريخ، وتأثيره في تطوّر الخطاب السّرديّ، كما تعكس مستوى وعي الرّوائيّ العربيّ بمختلف الرّؤى الحضاريّة، وسعة خبرته وثقافته ومعرفته المتجدّدة بمستجدّات عصره، وتأثّره بما يحدث في كلّ مكان، كما هو الشّأن - مع واسيني الأعرج الذّي كتب - عن الكاتبة اللّبنانيّة مي زيادة، وسرد محنتها في مستشفى المجانين العصفوريّة الذّي زجّت فيه ظلما لغاية وفاتها، وكان ذلك بهدف الاستيلاء على ميراثها، واستند الكاتب - في ذلك – إلى كتبته مي زيادة من يوميّاتها؛ ولكنّه لم يقتصر على كتابة الأحداث كما عرفها بحقيقتها؛ بل أعاد قراءتها، ثمّ كتابتها، منطلقا من رؤية مغايرة، ومع ذلك فقد جعل رؤيته المغايرة تنسجم مع رؤيا الكاتبة، وفي ذلك ربط بين الماضي والحاضر، وتفكير في بناء المستقبل، واختار إيزيس التّي تمثّل آلهة مصر القديمة التّي تعبّر عن الحياة، والحبّ، والخصوبة والسّحر، والحكمة، وهيمنت الأساطير المصريّة القديمة؛ حيث ولدت من غضب وحزن شديدين بعد أن قتل شقيقها أزر زوجها، وفصّل جسده إلى قطع، وإيزيس تمكّنت من جمع قطع جسد زوجها لإعادته للحياة، وأصبحت ملكة الأصوات والدّموع، وهي رمز في حماية الحقوق المدنيّة للنّساء والأطفال والفقراء، وتحوّلت في النّهاية إلى الدّلالة على رمزيّة الحكمة والحبّ والقوّة، ممّا يتساوق مع حكاية ميّ ورمزيّتها في النّهاية؛ ورغم معاناتها، وموتها، فهي قد استعادت جزءًا من حياتها التّي تشيد من خلالها بدور المرأة؛ للتّأثير في المجتمع في ظلّ ذكورة متسلّطة ومستبدّة ومسيطرة.
وقد جدت ميّ زيادة نفسها بين أدباء كبار، أحبّوها كطه حسين، ومصطفى صادق الرّافعيّ، وأحمد زكي، رشيد رضا، ومصطفي عبد الرّازق، وسلامة موسى، وأحمد شوقي، خليل مطران، إبراهيم المازنيّ، عبّاس محمود العقّاد، وزكي مبارك، عبد الرّحمن شكري. وغيرهم ممّن كانت تستضيفهم في صالونها الثّقافيّ؛ لكنّهم ظلّوا يهابونها. ووعلى الرغم من ذلك تعتزل وتصيبها كآبة بسبب وفاة من أحبّتهم، وإحساسها بضياع جهدها الثّقافيّ لسنوات في سبيل المرأة، ممّا جعل ابن عمّها يدخلها مستشفى الأمراض العقليّة للاستيلاء على أموالها وممتلكاتها، وقد أدت الخطّيّة المنعرجة لأحداث الرّواية إلى وظائف سرديّة، جعلت القارئ متشوّقًا في كلّ مقطع سرديّ لمعرفة المزيد من الأحداث؛ ممّا عبّرت عنه الرّواية ببراعة فنيّة.
إقرأ المزيد