نسيج التّبئير في النّص السّرديّ (الجزءالرّابع)
وكالة أخبار المرأة -

4- القناع في السّرد/ الحاجة إلى القناع:

يشير مصطلح القناع إلى التّغطية والإخفاء، ولبس القناع غالبًا ما يكون للتّنكّر، أو أغراض أخرى، وللقناع دلالات رمزيّة كثيرة، منها ما يدلّ على مواقف إنسانيّة وأخلاقيّة بالدّفاع عن الحقّ والضّعيف والمظلوم، وفي الشّعر القناع وسيلة فنيّة، اعتمدها الشّعراء للتّعبير عن مواقفهم، أو تجاربهم، بشكل غير مباشر، بسبب بعض العوامل الاجتماعيّة أو السّياسيّة، التّي توقع الأفراد في جملة من المتناقضات؛ ممّا يجعلهم يتجاوزون الواقع والمألوف والمعتاد، وقد تكون الشّخصيّة الأدبيّة، أو الدّينيّة، أو السّياسيّة، قناعًا ؛ إذ يعطي الكاتب أبعادا ودلالات خفيّة عن الشّخصيّة ليحمّلها رسالة وعلى القارئ أن يكتشفها بما يناسب مضمون الرّؤية السّرديّة.

وفي الغالب يكون القناع في العمل الفنّيّ رمزًا قويًّا يحمل العديد من الدّلالات والمعاني المختلفة، وقد يتجلّى بأشكال متعدّدة حسب السياق الثقافي والفني. هناك طرق جَمَّة يمكن أن يُظهر فيها القناع في السّرد الرّوائيّ - على سبيل المثال - ليكون عنصرًا مهمًّا في تطوير الشّخصيّات، أو في تقديم الرّؤية السّرديّة بشكل عامّ؛ كأنْ أنْ يكون القناع جزءًا من شخصيّة تكون ذات ثنائيّة وجهيّة؛ أي إنّها تُظهر وجهًا خارجيًّا مختلفًا عن الوجه الحقيقيّ، أو الدّاخليّ للشّخصيّة. كأنْ تظهر شخصيّة ما بوجه مشرق وسعيد أمام الآخرين، ولكن خلف الكواليس تكون مكسورة أو مكتئبة. كما يمكن أن يُستخدم القناع لخلق جوّ من الغموض وعدم اليقين بالنّسبة إلى القرّاء. على سبيل المثال، حين تخفي شخصيّة ما معلومات مهمّة عن حياتها، أو عن خلفيّتها الحقيقيّة، ممّا يثير تساؤلات القرّاء، ويحفّزهم على استكشاف الرّواية لمعرفة المزيد. ويمكن أن يتغيّر القناع مع تطوّر الشّخصيّات عبر الرّواية، على سبيل المثال، شخصيّة قد تبدأ بارتداء قناع للتّكيّف مع مجتمعها، أو لحماية نفسها، ومع تقدّم السّرد قد تتغيّر، أو تتكشّف طبيعتها الحقيقيّة.

وتبعًا لذلك، يمكن أن يستخدم القناع بوصفه رمزًا يمثّل مفهومًا معيّنًا أو فكرة داخل الرّواية. على سبيل المثال، شخصيّة ترتدي قناعًا يمكن أن ترمز إلى الزّمن، أو إلى الوجه الخفّيّ للحياة، ممّا يضيفُ طبقة إضافيّة من العمق والتّعقيد إلى القصة، بالنّظر إلى أنّه يمثّل فكرة الاختباء، أو الإظهار بوجه مختلف، ممّا يجعله رمزًا فريدًا، ومعقّدًا، في الفنون المختلفة. وفي ضوء ذلك يمكن أن يكون القناع في السّرد الرّوائيّ أداةً فعّالةً لخلق توتّر في سير الأحداث، وتعقيد في مسار الشّخصيّات والقصّة بشكل عامّ، ممّا يُسهم في جعل القرّاء يتفاعلون بشكل أعمق مع النّص ويستكشفون المزيد من الجوانب والمفردات النّفسيّة والإنسانيّة.

وقد ورد توظيف القناع السّرديّ في روايات كثيرة، كما هو الشّأن في رواية تاء الخجل لفضيلة الفاروق؛ حيث صوّرت من خلالها - بتقنيّة فنيّة - مادّة حكائيّة لتصوير فترة حرجة وصعبة عن واقع المجتمع الجزائريّ، وسمّتها بالفترة الحمراء، وخاصّة معاناة المرأة وحرمانها من أبسط حقوقها وتعرّضها للاغتصاب والعنف، وعبّرت بذلك السّاردة عن حالتها، وتمرّدها على العادات والتّقاليد؛ إذ وقعت ضحيّة الحبّ والعادات والتّقاليد ومع ذلك واصلت تعليمها، وعبّرت بذلك عن واقع معاناة أمّها وجدّتها وكنزة ويمينة ورزيقة وهو واقع المرأة الجزائريّة عموما؛ حيث تضمّنت رواية تاء الخجل ثمانية فصول، تحدّثت في الفصل الأوّل "أنا وأنت" عن التّهميش الذّي تعاني منه المرأة الجزائريّة، والفصل الثّاني "أنا ورجال العائلة" سردت فيه أبرز الضّغوطات العائليّة باسم العادات والتّقاليد، ونظرة بعض الأسر الدّونيّة لكلّ بنت تلتحق بالجامعة، وستكون وصمة عار وانحلال خلقيّ، والفصل الثّالث "تاء مربوطة لا غير" تسرد فيه الكاتبة انضمامها لقطاع الإعلام وإسهامها في جريدة الرّأي الآخر لبعض أحداث العشريّة السّوداء وخاصّة اغتصاب 5000 امرأة، وسردت عدّة قصص منها قصّة ريمة نجار التي رماها والدها من أعلى الجسر ليتخلّص من عار اغتصابها، والفصل الرّابع "يمينة" وهي الشّخصية الأقرب من الكاتبة حينما أرادت إنجاز تقارير عن المسجونات، ثمّ الفصل الخامس "دعاء الكارثة" ومن خلال هذا الدّعاء الكارثيّ تراجعت الكاتبة عن كتابة المقالات التّي كانت تسعى إلى كتابتها من خلال معرفة قصص النّساء المسجونات والمقهورات لعدّة أسباب، واعتبرت نفسها من عائلتهنّ. وجاء الفصل السّابع "الموت والأرق يتسامران" لتلخّص فيه قصّة رزيقة السّجينة وحكايتها مع الطّبيب الذي رفض إجهاضها، ورجعت في الفصل السّابع "جولات الموت" إلى الحديث عن يمينة ووضعيّتها البائسة المحزنة، وترجع في هذا الفصل لإعلان خبر انتحار رزيقة بسبب انهيارها وعدم تحمّلها تلك المأساة، التّي لم تكن سببا فيها. في الفصل الثّامن الذي كان عنوانه "الطّيور تختبئ لنموت" تصف حماس يمينة لزيارة جسر سيدي مسيد؛ لكن تتفاجأ بخبر وفاتها، وكان الفصل الأخير كلّه عبارة عن مقاطع سرديّة مأساويّة.

وللإشارة فإنَّ عنوان رواية فضيلة الفاروق، وعناوين الفصول قد حملت رسائل مشفّرة، وركّزت على صفة الخجل الملتصقة بالمرأة غالبًا، وما تحمله صفة الخجل من دلالات تنويعيّة في جميع الفصول، وارتباط خالدة بالعائلة والمدرسة والعادات والتّقاليد لا مفرّ من واقع فرض عليها، ومنه كان الصّمت للتّعبير عن الخجل، وخالدة هي قناع مرّرت من خلاله الكاتبة عدّة رسائل ذات حمولات سرديّة مقنّعة من خلال توظيفها ضمير الأنا، ورغم تمرّد خالدة ومحاولتها الانفلات من هذا الواقع المرير، فإنّها لم تحقّق طموحاتها، ولم تجسّد آمالها كما كانت تتمنّى: (كنت مشروع أنثى، ولم أصبح أنثى تماما بسبب الظّروف. كنت مشروع كاتبة، ولم أصبح كذلك إلاّ حين خسرت الإنسانة إلى الأبد)، وفي ذلك توظيف لقناع السّرد للدّلالة على رفض القيود، والرّغبة في الانطلاق والتّحرّر من بعض العادات، التّي تقسو على المرأة في عدّة جوانب من حياتها. ولعلّ مظاهر التّقنّع والتّخفيّ الواردة في رواية تاء الخجل تجعلها تقترب في العديد من المقاطع السّرديّة إلى الرّوايات السّيرذاتيّة ومنها رواية سارة للعقّاد وغيرها، إذ يتّكئ الكاتب على التّخييل لإخفاء بعض الحقائق، وكأنّه يلجأ للقناع كحماية خاصّة لمن يكتب حياته، ووقائع حقيقيّة لمقرّبين؛ فيكون القناع حاجزا بين أحداث حقيقيّة وأخرى تخييليّة مرويّة، ويزداد الأمر حرصا إذا تعلّق بمواضيع السّلطة بما فيها السّياسيّة والدّينيّة؛

غالبًا ما يُنظر إلى المبدع – في توظيفه القناع - وكأنّه مفسد، أو ينشر ما يخالف عادات المجتمع وتقاليده وأعرافه، فيكون القناع السّرديّ بمثابة تقنيّة تباعد بين ما هو حقيقيّ مرتبط بشخصيّة المبدع من أحداث ومواقف، وما يؤدّي إلى تصنيفه ضمن إطار ضيّق الحدود يتّهمه بتجاوزات فنيّة وأخلاقيّة وغيرها. ومع ذلك قد يكون (القناع في الرّواية السّيرذاتيّة قناعا شفيفا كشّافا يفضح أكثر ممّا يستر، ويبرز أكثر ممّا يخفي. فالحدود تبدو ضبابيّة زلاّقة بين القناع ونزع القناع، وبين الهروب والمواجهة، والتّخفّي والتّجلّي، والتّستّر والبوح...)، وهذا لا يلغي دور القناع السّرديّ وأهمّيته ووظيفته، بقدر ما يلفت الانتباه لما يعتري النّصوص المقنّعة من تناقضات سببها القلق الذّي يتراوح بين الظّهور والاختفاء، وتتمايز درجاته ومواضيعه وأسبابه بين الشّخصيّات ممّا يرجع ضبطه للسّياق الذي وردت فيه.



إقرأ المزيد