وكالة أخبار المرأة - 8/1/2025 4:13:09 PM - GMT (+3 )

يمثّلُ الحوار مرحلةً من مراحل تحوّل أحداث النّصوص الرّوائيّة؛ بوصفه سرديّة من السّرديّات الضّمنيّة، التي تهدفُ إلى التّبدّل والتّغيّر. ويمثّلُ الحوارُ نقطةَ انقلاب الملفوظات إلى ما يقابلها بالضّد حسب ما تقتضيه الضّرورة خاصّة تسريع العمليّة السّرديّة، والتّعريف بشخصيّات النّص الرّوائيّ ضمن سياقات لغويّة باتّجاه دلاليّ معيّن يحدثُ تغييرا في مسار السّرد.
ونجدُ في مسرديّة أحلام الغول الكبير للروائي عز الدين جلاوجيّ تشكيلات حواريّة مكثّفة منذ بداية النّص، ويمتدّ عبر صفحات، تبدأ من وصف معاناة الزّعيم وآلامه، رغم ضخامة عرشه وروعة قصره لكنّ ذلك لم يخفّف من حزنه وكآبته، وافتتح النّص بحوار الزّعيم بعد وصف للحارسين الواقفين المدجّجين بالأسلحة، ويتلوها مشهد وصفيّ لغضب الزّعيم وخوفه وصراخه... لينتقل المشهد من هذه المقاطع الوصفيّة المكثّفة بحمولات دلاليّة إلى حوار فيه أسلوب استفهاميّ يعتمد على تكرار الملفوظات: (أين قادة جيشنا المظفّر؟ أين قادة جيشنا المظفّر؟ لمَ أبطأوا اليوم فلم يحضروا؟
يقف قليلا من مكانه، يقلّب نظره في حارسيه، يمدّ نظره إلى الباب، يهرع القادة سريعا وقد ترامى بعضهم على بعض أمام رجليه، يردّون بصوت واحد:
- شبّيك... لبّيك... نحن خدّام لديك.يحسّ الزّعيم بالانتشاء، تنبسط أساريره، ثمّ فجأة يندف إليهم صارخا مشهرا عصاه في وجوههم وقد تغيّرت ملامحه.
- بل أنتم خونة... خونة... خونة...
تنتفخ أوداجه، يتطاير بصاقه على وجوههم، يعود سريعا إلى عرشه، يجلس إليه، يتشبّث به بكلتا يديه... يرفع عصاه المطرّزة بالذّهب والجواهر، يشير بها لأحدهم وهو أضخمهم جثّة وأطولهم قامة.
- أخبرني أنت، يا قائد عسكريّ المظفّر، يا من نثق بك كثيرا، لماذا دعوناكم فلم تلبّوا؟
يندفع قائد العسكر إليه مرتجفا ملبّيا في استعداد عسكريّ صارم، يضرب الأرض بقدمه اليمنى، يمدّد يديه على جانبيه. يبرز بطنه المنتفخ، يشمخ بأنفه كأنّما ينظر إلى السّقف، قائلا:
- بل لبّينا سيّدنا... ومولانا... ووليّ نعمتنا...).إنّ مسرديّة أحلام الغول الكبير في مجملها عبارة عن حوارات من أوّلها لآخرها، بوصفها تجربةً فريدةً مغايرةً، وهي تسريد النّص، وتحمل أنساقًا سرديّةً دالّة على السّلطويّة، ولعتبة العنوان دلالات تعين القارئ على مساءلة هذا النّسق الثّقافيّ الثّاوي، واستكناه البنى العميقة لهذه المسرديّة، التي بنيت على أساس توظيف متواليات سرديّة رمزيّة جماليّة فنيّة، تضمر إيديولوجيّات مستبدّة لهذه السّلطة، وتُبين عن أبعاد الاستبداد والطّغيان والاحتقار والظّلم، ولعلّ ذلك ما تعبّر عنه الأنساق الاجتماعيّة والسّياسيّة في المسرديّة التّي تتكوثر فيها شفرات كتابة عزّ الدّين جلاوجي في توظيف أساليب السّخريّة والملامح السّيميائيّة، التّي تستخلص من العنوان والأسماء والشّخصيّات، ويجسّد الحوار بناء دراميّا بلغة سرديّة عبّرت عن الحقيقة البشريّة والصّراع الأبديّ الذي يعيشه الإنسان بينه وبين نفسه ولعلّ ذلك يمثّل صراع الذّات وطغيانها، أو صراعه مع القوى الخارجيّة، فضلا عن أن هذا الصراع يعكس حقيقة الشّعوب المظلومة والمضطهدة مع اختلاف أساليب التّسلّط وتعدّد أشكاله، ويتّضح ذلك في بعض الأنساق الحواريّة التّي تتّسم بالغموض والغرابة، وتمظهرات التّخييل والتّجريب بوصف الخطاب المسرديّ أحلام الغول الكبير بنية مفتوحة على جملة من التّحوّلات، كما يمثّل استراتيجيّة سرديّة هادفة التي تميّز كتابات عزّ الدّين جلاوجي التّي تعدّ ثورة في عالم الإبداع المسرديّ في مثل القصّة المشطورة، والقصّة المتشظيّة، ومزجه السّر بالمسرح الذي جسّده في أحلام الغول الكبير، والأقنعة المثقوبة والبحث عن الشّمس، وغنائيّة الحبّ والدّم وغيرها.
اقتراء العلامة في قولة الصّمتيدلّ ملفوظ الاقتراء لغةً على تتبّع الأشياء والوقائع والأحداث عن قرب، ومعاينتها مشاهدةً وتصويرًا للوصول إلى أحكام، ويقال الاقتراء هو عينُ القراءة، وهو تتبّع التّفاصيل بدقّة للفهم واتّخاذ قرار أو حكم مناسب. ولعلّ قولة الصّمت تحملُ دلالة الصّمت الذي يشير إلى مفاهيم وأفكار غير معلن عنها ولا مصرّح بها من الكاتب، وذلك ما يعبَّر عنه بملفوظ الصّمت المنطَّق؛ لأنّ من دلالات هذا الصّمت أن يكون في سياقات تعبّر مثلاً عن خيارات سياسيّة وتاريخيّة واجتماعيّة وثقافيّة، أو توظيف قولة الصّمت ضمن مقامات تستدعي تأويل ملامح شخصيّة ما في النّصوص التّي تستهدف الإنسانيّة، وما تقتضيه من قيم وأبعاد روحيّة، "وبَيِّنٌ إذن، إنّ المنطقيّة النّظريّة، والنّظر بعامّة، لا يتحكّمان فحسبُ بتحديد العبارة والدّلالة المنطقيّة، وإنّما أصلاً بما قد أُقصي منهما؛ أي الإشارة، والإظهار بما هو(Weisen)، أو [إشارة Zeigen] ضمن الإشارة بالبنان، أو الإحالة الإشاريّة.
والمبدعُ غالبًا ما يدعو إلى التّفكير فيما لم يعبّر عنه حينما يتّجه إلى ذاته بمقولات صمت مضمرة، تحمل رمزيّة ودلالات مستترة ومسكوت عنها وحينها (يتحوّل اللاّمقول في القول إلى ما يكشف عن سريرة الذّات المبدعة؛ لأنّ التّصريح عن مكنون الذّات غالبًا ما يبِين عن حقيقة ما هو خفيّ، في وقت يحتاج فيه المبدع إلى الإدبار عن ذلك لدواعٍ كثيرة، لعلّ أهمّها دواعي همومه؛ لذلك يتعمّد مجانبة محمولات المباح، ويتلافى الاستبانة والانكشاف، ويستبدل به محمول المستور) والواضح أنّه في اقتراء الصّمت إشراك للمتلقّي لفهم الأنساق، وتحليلها التّي فيها مقاطع تدعو إلى التّأمّل من أجل الوصول إلى ما لم يفصح عنه المبدع بشكل مقصود، ولعلّ شاعريّة الصّمت تخفي حقائق معيّنة وتهدف للتّعبير عن مواضيع مغايرة ومتفرّدة عمّا يظهر من سرد مباشر للمباني اللّغويّة، وذلك من شأنه مضاعفة الحقول الدّلاليّة المجازيّة في النّصين الظّاهر الذي تتجلّى معانيه والخفيّ المسكوت عنه، الذي يتضمّن دلالات مضمرة وجب اقتراؤها لإظهارها، وقد ركّز جيرار جينيت على تلك الفواعل المتعالقة التّي تتضمّنها النّصوص فيما هو مصنّف في خانة المسكوت عنه بالمتعاليات النّصيّة (Transcendance Textuelle)، وهي بمثابة نصيّة موازية أو ما وراء نصيّة[1]، وقد يكون الصّمت في المضمر دافعا لإظهار المعاني المستترة، المخبوءة، ويكون المضمر بذلك الحاضر الغائب أو المخفيّ الظّاهر بقوّة المعاني باختلاف تدرّجاتها، وذلك ما أشار إليه القرطاجنيّ في إبرازه لمراتب الكمال في المعنى والتّدرّج من المطابقة إلى عدمها في شرحه لأصناف المعاني وهيأتها وأحوالها وتركيباتها.
وحينما يأتي دور المتلقّي الذي يتحرّك داخل النّص، فإنه ينطلق من آفاق التّوقّعات لاكتشاف الدّلالات المخفيّة لأنساق مختزلة متخمة بالمسكوت عنه؛ ممّا يتطلب براعة وقدرات فنيّة وجماليّة لاستقراء مقولات الصّمت في النّص. وانطلاق المتلقّي من ذاته يستدعي (فهم الذّات وتحليلها والاقتراب منها يجعلنا نقتربُ قبلها من ملفوظات الضّمائر الرّوائيّة بأنواعها؛ لأنّ فهم الضّمائر واستخلاص دلالاتها السّرديّة من خلال قراءتها الصّحيحة يجعلنا نفهم تجلّيّات الذّوات السّاردة، واستخلاص دلالة ملفوظات الضّمائر، ولعلّ تداعيات تقصّي ملامح ملفوظات الغائب ترتبط بتقنيّات السّرد وبراعة الكاتب ونقله لأفكاره، وتجسيده لعواطفه في النّص السّرديّ، ومنه التّمييز بين السّارد والكاتب كما دعت إلى ذلك العديد من الدّراسات النّقديّة مع تطوّر الكتابات الرّوائيّة، والدّعوة إلى التّركيز على النّص من الدّاخل، والقدرة على إظهار السّارد لشخصيّات العمل السّرديّ، وتجسيد استقلاليتها؛ بحيث تصبح قادرةً على التّعبير عن ملفوظاتها بصوتها لا بصوت السّارد غالبا، وكذا توظيف تقنيّات سرديّة، وملفوظات ذات مواقف ليتحقّق الإبداع في علاقته بما يرويه السّارد، وينفتح من خلال ذلك النّص السّرديّ على احتمالات وتأويلات وآفاق؛ منها ما يتعلّق بأفق المسكوت عنه... وتعدّد الأصوات وما يظهر من دلالات الملفوظات في المستويات اللّغويّة وعلاقتها بالأساليب السّرديّة التّي تتلخّص من خلال عمليّة التّبئير النّصيّة من زاوية رؤيا خارجيّة، لمّا تكون معرفة الرّاوي أكثر من معرفة الشّخصيّة، وقد تتساوى الرّؤى حينما تكون معرفة الرّاوي معادلة لمعرفة الشّخصيّات، وهنا يظهر توظيف الضّمائر خاصّة المتكلّم وضمير الغائب، وكذا المخاطب، وقد تتداخل الضّمائر في عمليّة سرديّة واحدة) ، وحينما نتحدّث عن المضمر فذلك ما يقتضي فهم خاصيّة الحضور والغياب، ومن ثمّ فهم مواقف المتلقّي، وكيفيّة مساءلته لعلاقات تلك العلامات وخاصّة ربط الظّاهر بالصّموت؛ لأنّ المقصود هو إدراك القيم الفنّيّة للخفيّ انطلاقا من الجليّ، وتمّ ربط المضمر والمسكوت عنه بلا وعي الكاتب من خلال تفاعل العلامات اللّغويّة وتماسكها، التّي تربط الظّاهر بالمضمر.
وللمسكوت عنه علامات تدلّ عليه، ودلالات قد لا تتحقّق في العلامات الظّاهرة في نسيج النّص، ويكون بذلك النّص الصّموت قد انتقل ممّا رُسم له من حدود الخطاب إلى رحابة عالم دلالة النّص، وقد أشار عبد القاهر الجرجانيّ إلى دلالة الإفصاح والصّمت بقوله: (فإنّك ترى به ترك الذّكر أفصح من الذّكر، والصّمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون بيانًا إذا لم تُبِن). والعديد من الرّوايات العربيّة المعاصرة تبني خطاباتها على الصّمت، ويكون للمضمرات نصيب؛ ممّا يستدعي استكناه معالم المسكوت عنه بنباهة القارئ وبراعته، وذلك ما يتوجّب معرفة بأنماط القراءة ممّا فصّل فيه تزفيتان تودوروف في حديثه عن (القراءة بناءً) استنادًا إلى الخطاب المرجعيّ ومعرفة طريقة فهم الجمل المرجعيّة وفهمها، وإدراك المرشّحات السّرديّة ومقاييس التّحليل السّرديّ الثّلاثة (الزّمن، وجهة النّظر، والصّيغة).
ولعلّ الاقتراء في المنظور السّيميائيّ، وقولة الصّمت، تتّضح معالمها ودلالاتها التّنويعيّة في رواية كتاب الأمير لواسيني الأعرج، لأنّ هذه الدّلالات (تتساوق مع أصالة الأمير عبد القادر، فهو ليس نبيًّا يحمل الكتب والمعجزات، ويبشّر بالنّبوءات، إنّه ببساطة إنسان حرّ يطلب الأسمى، موطنه الانعتاق، وموقفه النّضال، وسموّه في طلب المعرفة اللّدنيّة، ولا حدود لانطلاقه في الأسرار الرّوحانيّة؛ وربّانيّة المعرفة إلاّ بنشدانه صفات الخَلْقْ من صفات الحقّ بالقلب والبصيرة؛ لذا فإنّ الإشكاليّة التي سنتطرّق إليها في نَبْعَة "قطب الرّحى/ وجدان الضّمير الوطنيّ" تقوم على إبراز مكانة شخصيّة الأمير عبد القادر الجزائريّ في ضوء ما يمليه الضّمير النّضاليّ، والبعد الإنسانيّ، والوجدان الوطنيّ، والقطب الدّينيّ، في توازٍ مع ما جاء في سرد كتاب الأمير للرّوائيّ واسيني الأعرج) والمستخلص من هذا النّص يحيلنا إلى أنّه ليس من السّهل استنباط الأنماط السّلوكيّة لشخصيّة لها مكانة وتأثير في اتّجاهات عديدة، وشخصيّة الأمير عبد القادر واحدة من أبرز الشّخصيّات التّي تتطلّب عمليّات اقتراء بيِّنة؛ لاستخلاص دلالات تحمل خبرة هذه الشّخصيّة، وتجاربها في الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة والفكريّة والدّينيّة والنّضاليّة، وغيرها ممّا يعبّر عن تشبّع الشّخصيّة بالقيم الرّوحيّة، ووعيها الفكريّ العميق ومبادئها الإنسانية، وحصافة أفكارها ورقيّ معارفها، وساعده ذلك على تحمّل المسؤوليّة في ميدان الكفاح في سبيل الحريّة وحفاظا على الهويّة الوطنيّة (نحن، إذن، أمام أعظم شخصيّة أبدعتها المحامد، وأوجدتها المفاخر في رِفعة الأمير عبد القادر، وسُموِّه، وسيبقى شجرة شامخة، نجني من ثمارها معنى الإنسانيّة في أسمى معانيها الرّوحيّة والنّضاليّة... نتعلَّم منها كيف نتحمّل أعباء المسؤوليّة، وستبقى الأجيال تتمتّع بروحه الفيّاضة، وتنمو على كلّ نبض في حضورها وغيابها، لتتّخذ هذه الأجيال الواعدة من سيرته نبراسًا تستضيئ بفيض معالمه الرّوحيّة والنّضاليّة، وبمقاومته الخالدة التّي يشهد لها القاصي والدّاني...). والواضح أنّ شخصيّة الأمير عبد القادر من الشّخصيّات التّي وجب على القارئ أن يسبر معالم روحانيّاتها الصّوفيّة، النّاتجة عن تربيته ونشأته الأسريّة والاجتماعيّة والدّينيّة، ويضاف إلى ذلك مرتكزات تخطيطاته الاستراتيجيّة بوصفه مؤسّس الدّولة الجزائريّة الحديثة، حيث شملت هذه المخطّطات جميع مجالات الحياة ومناحيها من إداريّة وعسكريّة وكلّ ما يشمل القيم التّربويّة والتّعليميّة والفكريّة، ومقوّمات النّضال والمقاومة الثّوريّة، ودعوته إلى التّسامح، والتّعايش السّلمي، والتّآخي، والانسجام بين المجتمعات والحضارات، وتفاعلها الإيجابيّ؛ لتحقيق التّمساك الإنسانيّ وهو ما عبّرت عنه – أيضا - رواية عناق الأفاعيّ لعزّ الدّين جلاوجيّ في مواضع كثيرة تستحقّ الوقوف عندها.
[1] - النّصيّة الموازية (Paratextualité) الماوراء نصيّة (La Transtextualité). ينظر، جيرار جينيت، أطراس – الأدب في الدّرجة الثّانية- تر، حسني المختار، مجلّة فكر ونقد، العدد 16، 1999.
إقرأ المزيد