وكالة أخبار المرأة - 12/10/2024 1:33:05 PM - GMT (+3 )
الهروب إلى الذكريات...
وواقعية الغدر
وقصر عمر الحب
فلابد أن تهرب إلى الذكريات
هناك في مكانٍ بعيد في ذاتك، مكان دافئ لا تعتريه البرودة ولا يصيبه الجفاف الذي يتركه انحباس المطر، هناك في مكانٍ بعيد من ذاتك يوجد بيتٌ صغير دافئ وصغير بحيث لا يتسع إلا لك ولن ينافسك أحد على العيش به، لن يأتي أي احتلال ليقتلعك منه، ولن تمسه أي من عوامل للتعرية، ولن تضجر من التجوال الطويل به رغم صغر حجمه، هناك في مكانٍ بعيد من ذاتك لا يمكنك أن تشعر بالعزلة الكاملة والانسحاب من كل شيء ومن أي شخص إلا بذلك البيت البعيد النائي عن كل ما يتعلق بواقعية ما حولك، إنها ذكرياتك.
وحين تمر السنوات وتبدأ الحياة بإزالة اقنعتها الواحد تلو الآخر دون نفاق ولا مواربة بل ودون خجل، تبدأ بالإدراك أن تلك الذكريات البعيدة، الجميلة الدافئة هي أغلى ما تملك، لأنها لا تمنحك فقط متعة الحديث عنها لمن يهتم بأن يستمع إليها، ولكنها تمنحك فرصة للهروب من واقع قد يتحول لشيء ثقيل، والذي رغم أنك تعيش كل تفاصيله ولكن روحك شديدة البعد عنه، فتبدأ روحك بالبحث عن بيتها البعيد الذي تركته منذ سنوات قديمة وبعيدة.
لأن الروح تتعب كما يتعب الجسد، الجسد يتعب من الحركة ومن العمل والمجهود البدني، لكن الروح تتعب من النفاق والكذب والغدر وكل ما يخبرها بأن هذه الحياة ليست نقية بنقاء الروح وليس صافية بصفاء الماء المنحدر من أعماق الجبال؛ فتصبح تلك الذكريات هي ملاذ الأخير لروحٍ هاربة. تعود إلى ذلك المكان البعيد حيث كان هناك من نحب ومن أحبنا، حيث كان هناك من لم ندرك أنهم سوف يرحلون وأننا لن نقابل أبداً مثلهم بروعتهم وعطائهم، هناك حيث كان الاستقبال الأول لكل معاني الحياة، وحيث كان الفضول الكامل تجاه الوجود والذي يخفت إلى أن يتلاشى مع التقدم بالسن، ولا ندري أن ذلك الفضول كان أجمل ما بطفولتنا، وأنه كلما فقد الإنسان الفضول تجاه الحياة يعتري حياته برودةٌ لا نهاية لها.
جميعنا نهرب من شيء ما بداخلنا أو حولنا، جميعنا في حالة مستمرة من الحركة الجسدية والنفسية كذلك، هناك من يجد محطات هروب لأنه لديه القدرة المالية على أن يغادر ولو لأيام، وهناك من ليس لديه تلك القدرة، وهناك من لديه القدرة المالية ولكن ليس لديه القدرة الجسدية، لذلك تصبح الذكريات ملجأ وحصن آمن حين يشعر الإنسان أن ما حوله ليس ثابتاً بالقدر الذي كان يعتقده، حين يفقد الثقة بنفسه أو بمن حوله، حين يصدمه القدر بأحداثٍ صعبة، حين لا يشعر بالحماس لأشياء كان يرغب بها وحين حصل عليها فقدت كل قيمة لها، فنحن البشر في حالة بحث دائم، في حالة حركة مستمرة وبحالة تطلع لا ينتهي لما لا نملك، وحين نملك ما نريد تنتهي المتعة، وحين لا نملكه تبدأ المعاناة؛ لذلك كان الرضى هو الحكمة وكانت الثقة بالله هي رأس تلك الحكمة. وهناك من ذكرياتهم مرة ومؤلمة وهم فعلاً أصحاب التعاسة الحقيقية لأنهم حين يريدون الهروب لا يجدون ذلك البيت البعيد الدافئ، فتصبح الحياة ضيقة عليهم مهما رحبت وتكون أرواحهم مخنوقة ولو كانت في الفضاء الشاسع.
لذلك ولأجل إنسانيتك وإنسانية من حولك كن جميلاً وعطوفاً كي تمنح أولادك ومن حولك ذكريات يلجؤون إليها حين تصبح الحياة قاسية، ولكيلا يموت حبهم لك حين تغادر الحياة، فالحب لا يموت ولا يرحل مع الموت، وهو أجمل ميراث يمكن أن تمنحه لأهلك، وهو أجمل هدية لصديقك؛ حتى الأرض والسماء تبكيان على أولئك الرحماء الطيبون الكرماء الأموات في القبور والأحياء في القلوب.
إقرأ المزيد