عندما يرحل النور!
وكالة أخبار المرأة -
محمد السكري - مصر
عاوده ألم الظهر فافترش الأرض بجوار الحائط ، لعل الوجع يلملم أنّاته ويرحل، أو حتى يتلطّف به ، النافذة نصف المشرعة تسمح لضوء عمود الانارة القريب بالتسلل داخل الغرفة هرباً من رطوبة الجو التي أغبشت المصابيح ، صمتٌ مطبق لا يقطعه سوى نباح كلب الجيران وقطة تموء بين الحين والآخر ، ظلّ ينظر لسقف الغرفة وهو يتتبع عيوب الطلاء التي لا يكاد سقف منزل يخلو منها، ثم تذكّر أنه قرأ في قاموس اللغة أن السماء من كل شيء أعلاه أي أن سماء الغرفة هو سقفها
: يا لكثرة عيوبك أيتها السماء .. همس يحدّث نفسه .

بدأت الأفكار والذكريات تتداعى في رأسه و كأنها وجدت ثقباً في ذاكرته فاندفعت تبحث لها عن موطن في حاضر الزمان . تراءت له خيالات طفولته في القرية التي وُلد و تربّى فيها، حاول أن يتذكر أسماء أصدقاء طفولته لم يبذل جهدا كبيرا لإستدعائهم من قبو ذاكرته :صلاح ، إيمان، ألبير ، عصام ، هالة ، ...العيد، نعم كان العيد صديقه، وكانا يلعبان معا في شوارع القرية حتى يغلبه التعب فيغفو على حافة الليل فتحمله أمه وتضعه في السرير بعد أن تغسل له وجهه وقدميه وهو يقاوم كعادته ، كبر الطفل و غادر إلى المدينة ،أما صديقه العيد فقد رفض أن يكبر، و رفض أيضاً أن يترك أطفال القرية بلا فرحة.

إمتد به شريط الذكريات وحمله إلى قرية أخرى كان له فيها عُمر وذكرى ،ولكن شتان بين القريتين ، فالثانية كأنها قطعة من الجنة إشتاقت لأهل الأرض فهبطت من عليائها و استقرت بين دولتين في شمال أوروبا، عاش فيها مع صديقته الفرنسية بضع سنين قبل أن يغادر إلى دولة أخرى.. ...flash back ، يوم أن استيقظ فزعاً على صراخ أمه و ولولة خالته فقد ماتت جدته التي طالما خبأته في صدرها من برد الشتاء، شعر بدموعه تنساب من طرفي عينيه لتبلل أذنيه.....flash back ، صوت بكاء مولوده الأول، ولون وجه زوجته الشاحب وابتسامتها المفرطة في الوهن و السعادة ،..... flash back، تصفيق حاد بعد كلمة ألقاها في الاحتفال السنوي في الشركة التي كان يعمل بها بعد اختياره رجل العام ،.... flash back، حادث مروع أدخله المستشفى لعدة شهور ….. flash back صيحات الفتيات من خلفه وهو على وشك دخول دورة مياة النساء في أحدى الحانات بعد أن دارت رأسه من أثر سيجارة ماريجوانا أعطاها له أحدهم ……..

شعر و كأنه يستقل قطار الماضي و مئات الصور والوجوه تمر عبر نافذتها بسرعة لا يستطيع معها تمييز الأشكال والملامح .
تسارعت أنفاسه والصداع يكاد يفتك برأسه ، أغمض عينيه لعدة دقائق، وعندما فتحها وجد أن الكهرباء قد انقطعت وانسحب الضوء من الغرفة فتحولت الى ظلام دامس.

: إنه موسم الصيف وانقطاع الكهرباء... حدّث نفسه وهو ينقلب على جنبه الأيمن ، مرت دقائق وهو يتوقع بين لحظة وأخرى عودة الضوء البرتقالي المتسلل عبر النافذة . ولكن طال انتظاره دون جدوى، مدّ يده يبحث عن هاتفه المحمول فلم يجده، فلقد نسيه في المطبخ وهو يعد كوب الشاي الذي نسي أن يشربه هو الآخر، عادت ذاكرة طفولته لتفرض نفسها على رأسه وتذكّر أنه كان كثيراً ما كان يغمض عينيه ثم يسير في المنزل هكذا لبعض الوقت معتمداً على حفظه لأماكن الأشياء، فكانت أمه تنهره وتطلب منه أن يمشي "زي الناس"

: لماذا لا نستفيد إذن من تجارب الطفولة؟

سأل نفسه وهو ينهض مستنداً على حافة السرير، تقدم خطوات حتى وصل إلى باب الغرفة وبحركة لا شعورية مد يده ليضيء المصباح لكنه ابتسم عندما تذكّر إنقطاع الكهرباء، فتح باب الغرفة واتجه يميناً في الممر المؤدي لغرفة الأبناء لم يصطدم بشيء فهو يعرف موضع قدميه جيدا، سمع أصواتهم وهم يضحكون و يتصايحون

: ماذا بكم يا شباب ؟ قالها بعد أن فتح باب الغرفة و أطل عليهم من جوف الظلام
: تعالى يا بابا العب معانا اللعبة دي ، هتعحبك جدا ، أجابه الابن الأصغر
: انتو ازاي بتلعبو في الضلمة دي ؟
يرتفع صوت إبنه بتساؤل وخوف : نعم !، ضلمة إية ؟
لحظة صمت كأنها دهر أعقبتها شهقة رعب أطلقتها إحدى ابنتيه، بينما أخرس المشهد ابنته الأخرى .



إقرأ المزيد