كان لي بيت
العربي الجديد -

إن كانت اللغة هي بيت الوجود كما قال هايدغر، فماذا يحدث حين يتزلزل ذلك الوجود؟ ماذا يحدثُ للغة؟ أين تذهب؟ وعلى الضفة الأخرى للنهر، ماذا يجري للوجود حين نستبدل بلغتنا لغةً أخرى؟ يُشاعُ بين الناس القول إنّ الشعر هو ما يبقى بعد الترجمة، كما يُشاع ضدُّ هذا القول. الشعرُ هو ما يمكنه أن يتجاوز الحواجز بين اللغات. لكننا جميعًا نعلمُ أن ما لا يُترجم أكثر مما يمكن ترجمته، والشعراءُ كانوا أول من حدثونا عن استحالة القول.

أراني اليوم وأنا أقدم على ترجمة نفسي من لغةٍ لم أولد فيها إلى لغتي الأم. هذه القصائد وإن بدأت بقصيدة كتبتُها ابتداءً بالعربية، ولو أنني لم أكن لأكتبها لو لم أقرأ ما قرأتُه بالإسبانية مُترجمًا عن الألمانية، فبقية القصائد كُتِبَت بالإسبانية ثم تُرجِمت إلى العربية.

نُشِرت القصائد في مجموعة قصيرة عُنوانُها "جئتُ لأغني جُرح العالم" عن دار نشر "بيي دي مونتي" في العاصمة الكولومبية بوغوتا، مع رسوم للرسام الفلسطيني الغزي ميسرة بارود. وقد تأخرتُ كثيرًا في ترجمة هذه القصائد إلى العربية، لأنها وإن كانت جميعًا عن فلسطين، فقد وُلِدت في لغتي الجديدة، وفي كل مرة كُنتُ أحاول ترجمتها كُنتُ أراها شيئًا آخر غير ذلك الذي أراهُ وأسمعه في لغتها الأولى. لكنني قررتُ في النهاية أن أتخلى عن غنائيَّة القصائد في لغتها الأولى، وأبنيتها اللُغوية، وأن أعيد كتابتها بالعربية.

هل ظلَّت هي قصائد الديوان الإسباني نفسها؟ بالطبع لا. ليس هذا فحسب، بل إنني وأنا أحاول استصحاب القصيدة الأخيرة إلى العربية، وجدتني غير قادرٍ على حملها من دون أن تذوب بين يديَّ ويستحيل بناؤها رمالًا، فطلبتُ من صديقي الشاعر والمترجم المصري مصعب السيِّد ترجمتها، فكان أقدرَ منّي عليها، وإن عُدتُ إلى المرور عليها مُراجعًا نفسي التي أعرفها بلا لغةٍ، لملء بعض ما لم أقله بكلماتٍ في الأصل، وأردتُ التصريح به في الترجمة. الترجمة إلى لغتي الأم.


بيتُ الوجود

كان لي بيتٌ
أسكنُه وأرى من نوافذِه العالم
لغتي
كانت بيت الوجود
وفجرَ يومٍ مشؤومٍ أحرقوا البيتَ بمن فيه
ولا يزالُ الرمادُ في صدري إلى اليوم
لم تنطفئ النيرانُ في حُطامِ لغتي القديمة

كان لي بيتٌ
ووجودٌ
قبل اللغةِ
مُحاطًا بها

أذكر طفلًا في الأول الابتدائي
في درس الحساب
يُدرِكُ الفرق بين قولهم:
الصفرُ زوجيٌّ
والصفرُ رقمٌ زوجي
أذكر انتشاء أستاذ الحساب
بعبقرية الفتى الذي يعرف،
دون أن يدري،
أن الكلمات قادرةٌ
على وصف الوجود والعدم.

كان لي بيتٌ
عرفتُ من نوافِذِه الوجود
وحين أحرقوه
وقتلوا إخوتي قبل أن تُصفِّيهم جراحُهم
حين ذابت عظامُ رفاقِ طفولتي
بين أيدي آبائهم وهم يبحثون عمَّا بقيَ منهم
دون أن يتعرَّفوا على وجوهِ أبنائهم في الرماد
عرفتُ العدم
وتلاشى من بين شفاهي الكلامُ،
واللغةُ،
والوجودُ

انهزمنا جميعًا
واستحلنا
رمادًا في حُطام المذبحة


■ ■ ■


ما العمل؟

ما العملُ
في الليل الذي يبتلع أيادينا
في جوف ظلمته؟
ما العملُ
في النارِ التي تلتهم خضرة الجبال؟
إن كانوا يملكون حبس المطر؟
إن كانت الأسلحة في أيدينا
لها قلوبٌ تدقُّ قبل أن تضرب؟
إن كانت "العينُ بالعينِ"
أخذتنا جميعًا إلى العمى؟
ماذا نفعلُ
في الغابة التي يريدونها صحراء؟
في الصحراء
عندما يخنقون شرايينها
ليقتلعوا حياتها
من الجذور؟
ماذا نفعل؟
نزرعُ الماء.


■ ■ ■


جئت لأغنّي جُرح العالم

جئت لأطرق باب العالم
لكنَّ يدًا ما توصِد القفل مرَّةً
بكل طرقة تطرقها يدي

جئت أقدِّمُ قلبي
وما يفعل القلبُ
لطفل ذبيح
بجوار دميته
الغارقة في دمه؟

رميت بنفسي في الماء
فرأيت الدم يجري
رأيت الصنابير صحراواتٍ
ورأيت عطش الأجنة
التي لم تستطع رؤية نور العالم
العالم الذي يحرم النباتات نورها

رأيت كلماتي غرقى
في بركان من الغضب
ورأيت جسدي أشلاءً
خلطت بين ذراعيَّ وأذرعة أُخرى
بين لساني وألسنة أُخرى
خارجة من أفواهها
تبحث عن قطرة من مطر

نظرت في عينيْ نفسي
ورأيت في وجهي
بشاعة العالم
والرعب من العالم

أردت أن أقتل في نفسي
القاتل،
والجلَّاد،
والسفَّاح.

أتيت لأغنِّي جرح العالم
وخرج صوتي
صدئًا بدمي.

يجمِّل الغناء جُرح العالم
لكن الطفل الجريح
يريدُ كوبًا من الماء
وأنا أرسم له:
واحاتٍ جميلةً من النور

أفتِّش عن كلماتي المحتضرة
أضعها جميعًا في الغرفة المغلقة
في البيت المحترق تحت الأنقاض
فإن لم تسمع اليدُ المرتعشة رُعبًا
صوتَ القنبلةِ الأخيرة
التي ترميها برصاصة الرحمة
فلتحترقْ كلماتي
كالجثث المحترقة
ولتسقطْ
رمادًا بين الرماد
ترابًا في التراب
وعدمًا في العدم.


■ ■ ■


قلبي سفينة مثقوبة والعالم بحرٌ من الألم

قلبي سفينة مثقوبة
والعالم بحرٌ من الألم

المطر غزيرٌ
لكنه مطر مالحٌ
السفينة كبيرةٌ
وأنا وحدي 
وكفّاي صغيرتان

إلى أين أذهب بالسفينة،
ولا يلوح برٌّ لعينيَّ المشرئبتين،
وألواح السفينة لا تقوى على جيش الملح؟
الجبال البعيدة أخذت في الذوبان
ونداءات السفن الأُخرى
لا تبلغ أرضًا ولا سماءً

العالم بحرٌ من الألم
وكلنا سفن مثقوبة


■ ■ ■


الصرخة

آهِ لو أستطيعُ أن أسمع
صريخ الجبالِ
وأشفَّه
في قلبي!

الجبلُ
الذي خرَّ صعِقًا
حين جعلَ اللهُ يتجلَّى
أمام عيني موسى،
كيف له أن يظلَّ مُتماسِكًا
حين تصرخُ أمٌّ 
بأسماء أبنائها
بين الحُطام؟


■ ■ ■


مَن؟

مَن قد يسمعُ صُراخي،
إذا فقدت صوتي،
في الأرض المقفرة؟

ومن،
إذا سقطت،
سيرى أطرافي وهي تنفجر
مُطلقة آخر ما أستطيع من وميض نورٍ في ظلمات الرعب؟
من؟
وأنا؟
من قد أكون؟
ماذا يمكنني أن أكون؟
وماذا أفعل
لكي أعيد للجسد روحه،
وللميت حياته،
وللطفل اليتيم أباه،
ليخبره ماذا يفعل بكل هذا الألم؟
ماذا يُفعل بكل هذا الموت؟
وأين يمكن للمرء أن يمشي
لكيلا يطأ
فلذات أكباده المدفونة في الأرض كلها؟


* شاعر ومترجم مصري مقيم في كولومبيا



إقرأ المزيد