العربي الجديد - 2/11/2025 8:19:35 AM - GMT (+3 )

يُشرف على هذه الحَولية أستاذة الأدب العربي المعاصر لورانس دونوز والباحث نعمة الله أبي راشد
دَرجت النشريات والمجلّات الأكاديمية في فرنسا حول الأدب العربي على أن تهتمّ بِقَديمه، حتى وإن كان الاستشراق قد قتله بحثاً. لكن هل يعلم القارئ العربي أنّ جامعات فرنسا تُصدر مجلّة تعتني بحديث الكتابات الأدبية العربية مع هاجس مساءلة كلّ التعبيرات الثقافية التي تعاصرنا؟ ومن بين هذه الإصدارات حَوليّة "ليكرك" ("LiCArC" اختصاراً للأحرف الأولى من الأدب والثقافة العربيين المُعاصرين)، التي تصدُر دوريّاً عن دار "كلاسيك غارنييه"، وتتضمّن دراسات حديثة عن الآداب والثقافة العربيّة المعاصرة، يقيم جلُّ كتّابها في أوروبا وتُحرَّر مقالاتُها باللغات العربية والفرنسيّة والإنكليزيّة.
تُشرف على هذه المطبوعة الحَوليّة الباحثة لورانس دونوز، أستاذة الأدب العربي المعاصر في "جامعة لوران" (شرق فرنسا)، والباحث نعمة الله أبي راشد، وتهدف إلى النهوض بالدراسات الأدبية المختصَّة في الأعمال الروائية والشعريّة العربيّة الحديثة والمُعاصرة. وممّا جاء في تقديم "ليكارك" أنها "تُدافع عن تعدّديّة الاختصاصات وتلاقي المقاربات الإبستمولوجية والمنهاجية في دراسة المَحاور الأدبية والسياسية والتقاطع الثقافي. وهي تهدف إلى التعريف بالأبحاث المتعلّقة بالمشهد الثقافي، اليوم، وتنشيطها من خلال نشر الأعمال المُخصَّصة للظواهر الثقافيّة والفنّية الحديثة والمعاصرة، بقسمَيْها النثري والشِّعري، فضلاً عن تحليل نصوص الأدب العربي الراهنة، سواء أكانت فردية أم جماعية".
بعيداً عن منطق الاستشراق وما خلّفه من ثنائيات ضدّية
ومن بين الموضوعات التي تناولتها الأعداد المتعاقبة، نُشير إلى: جمالية المكان المتخيَّل في روايات الجزيرة العربيّة، والمسرح بين الأوتوقراطية والديمقراطية، والانتظار، والطفولة في الثقافة العربيّة المعاصرة، ونزوح الجسد الذكوري في محنة الهجرة، والبحث عن الهويّة في الأدب العربي المعاصر، وغيرها من المحاور التي تطرّق إليها الباحثون في الخمسة عشر عدداً التي سبق أن صَدرت خلال السنوات الماضية إلى يومنا هذا، وآخرها كان منذ أسبوع.
كما تروم "ليكارك" إتاحة الفرصة للشباب من الباحثات والباحثين لنشر بواكير أبحاثهم وأعمالهم الجامعيّة، سواء أكانوا من العرب أم من الأوروبيين، لا سيّما أنّ بعضهم يجدون صعوباتٍ جَمّةً في نشر مقالاتهم حين يكونون في مبتدأ درب المعرفة الطويل. ولا يعني ذلك أنّ هذه الأعمال لا تستجيب لمقتضيات الصرامة العِلميّة، بل على العكس، لا يُقبل أيّ مقال إلا بعد أن يخضع لتقييم صارم من اللجان العلمية المختصّة.
ومن الناحية الزمنية، اختارت "ليكارك" التركيز على الأدب العربي الحديث والمعاصر، ذلك أنّ الأدب القديم قد نال حظّاً وافراً في الاستشراق الفرنسي، خصوصاً مع باحثين كبار مثل بلاشير وشارل بِلا وغيرهما. وفي المقابل، ظلّ الأدب الحديث يعاني ثغرة قلّة الأبحاث المعمّقة التي تركّز على القضايا المعاصرة، مثل التهميش والجسد والغربة والهوية والمغايرة والهجرة، وبقيّة مستحدَث الأسئلة التي زادت حدّتها في العقود الماضية.
تشارك فيها أقلام متنوّعة من باحثين أوروبيّين وعرب
وتُوظّف غالبية الأبحاث المنشورة في "ليكارك" المنهج السيميائي أو الدلائلي، من أجل استنطاق النصوص الأدبية المدروسة، وتحليل نُظُم انتشار العلامات والدلائل فيها، مع ربطها بآليات السرد وتقنيات بناء الشخصيّات واستثمار أبعاد الأُطر الزمانية والمكانية، إلى جانب دراسة البنية الاستعارية وسجلّات القول ومستويات الخطاب؛ ما يجعل أغلب الأعمال مُنصبَّاً على تحليل النصوص وإجراء تأويلات أسلوبية واجتماعيّة لها، حسب ما تقتضيه طبيعة النَّصَّ وسياقه وجمهور تلقّيه.
وتدور موضوعات البحث في فلك البناءات المُتخيّلة ونصوص الإبداع، أكانت رواياتٍ وقصصاً أم شعراً، فضلاً عن المسرح والسينما، مع التقيّد عموماً بالفترة الحديثة والمُعاصرة ضمن اختيار منهجيّ يهدف إلى حصر المباحث في إطار زمني، حتى تكون المُدوَّنات متجانسة والمناهج المستخدمة متقاربة. وهي تعتمد ما توصّلت إليه نظريات النقد الأدبي من تأمّلات حول آليات اشتغال النصوص الإبداعيّة وتركيبها الداخلي وتلقّيها.
وأمّا المساهمون في هذه الأعداد، فينتمون الى فئة "المستعربين"، في ترجمة لـ"arabisants" التي صيغت على أنقاض مصطلح "مستشرق"، مُزيحةً إيّاه بعد اقترانه بالعديد من الصور النمطيّة السلبيّة، ليس أدناها التواطؤ مع الاستعمار والنظرة التحقيريّة إلى الشرق وحضاراته، علاوة على الاستعلاء المركزي - الأوروبي. ولذلك أشرعت "ليكارك" أبوابها لعشرات الباحثين والباحثات من أصول عربيّة، وهم أيضاً مُستعربون، أي: يَعملون في حقول الثقافة العربية إلى جانب باحثين أوروبيين، ما أثرى المقاربات وضَمِن تنوُّعَ المنهجيّات والنصوص المشتغل عليها.
وهكذا، كسرت هذه الحوليّة منطق الاستشراق وما خلّفه من ثنائيات ضدّية، حيث يُشارك كلّ الباحثين، أكانوا عرباً أم أوروبيين، في صياغة مقالاتها. المقياس الوحيد هو أصالة الرؤية وفرادة التأويل، وتماسُك المنهج المتّبع والتخصّص الواضح في تحليل أدبيّة النصوص، والعمل على تقديم نتائج جديدة لا تُكرّر ما جرى تداوله في الدراسات السابقة، ولا تستعيد المناهج التقليدية نفسها التي عفا عليها الزمن، بعد أن أبانت عن عُقْمها في استجلاء جمالية الفنّ.
صدر، إلى اليوم، خمسةَ عشر عدداً من الحَولية، خُصّص كلُّ واحد منها لمحور مُحدّد وكلّها تُعالَج من خلال النّصوص الأدبيّة العربية، فهي تُوفّر ما يشبه المنظورات العامّة التي تساعد في تحليل تجليات الخطاب الأدبي وتشكيله فنيّاً عبر الكلمات وذاكراتها. ويوضع كلّ محور مدروس ضمن إطاره التاريخي والنظري بعد تبرير اختياره عِلميّاً بما يتناسب مع المبادئ الأكاديميّة.
وهكذا، فما ورد في هذه الأعداد من الدراسات إنّما هو استنطاقٌ لنصوص الأدب العربي وبحثٌ عمّا لم تقُلْه هاتيك النصوص تصريحاً، وهو تنقيب في الرهانات الفنيّة والأيديولوجية التي تُخفيها أو تستدعيها تلميحاً، كما أنها تنكبُّ على مباني الآثار ولُحمتها اللغويّة لتَصِفَ علامات تائهة في إمبراطوريّة المعنى. والقارئ الحصيف هو الذي يستخرجه ويُعيد بناءه حسب دقيق المناهج حتى لا يكون التأويل إسقاطاً ولا سلخاً.
ولذلك ركّزت أبحاث هذه النشريّة على قضية الهويّة العميقة لكلّ نَصٍّ مدروس، وعلى خصائصه الأسلوبية التي تجعل منه أدباً وتخيُّلاً فريدَين، يقطع مع التوثيق والتسجيل. فالمُلاحَظ أنّ لورانس دونوز لم تخضع، في اختيارها المَحاور، إلى ضوضاء الراهن العربي، وما يجيش فيه من توتّرات سياسيّة مثل الربيع العربي وارتداداته. إذ حاولت البقاء في أُفق أكاديمي بحتٍ، لا تَعلَق في زخم الأحداث التي قد يُفضي الإغراق فيها إلى التفريط في المسافة النقديّة والخضوع إلى إكراهات اللحظات العابرة، بما قد تسفر عنه من طمسٍ للحقائق ومنع للتحليل المعمّق. ومع ذلك، يحضر الواقع العربي بمتغيّراته وأزماته وتعقيداته، كما ارتسم في مخيلة الكتّاب العرب. ولنا في الختام أن تتساءل: ماذا لو قرأنا هذه الدراسات بعين عربية بعيداً عن مدار هذه الأبحاث ضمن الأكاديميا الفرنسية؟
لورانس دونوز هي أستاذة وباحثة جامعيّة بلجيكيّة مُقيمة بمدينة نانسي الفرنسية. مُتخصصّة في الأدب العربي الحديث والحضارة الإسلامية. أنجزت أطروحة دكتوراه بعنوان "بين الشرق والغرب: دور الهلّينيّة والفرعونيّة في أعمال توفيق الحكيم" (2002). تُدرّس، منذ عشرين سنة، الأدب العربي الحديث والترجمة والحضارة في "جامعة لوران". وفي رصيدها عشرات المقالات والترجمات إلى جانب الإشراف على مجلّة "ليكارك" والعديد من الكتب الجماعيّة، آخرها: "نساء القطائع، نساء المقاومة" (2023).
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس
إقرأ المزيد