انسحاب المثقّف وحلول نجم الكُرة
العربي الجديد -

تمثال نجيب محفوظ بالقاهرة مغطى العين في تكريم رمزي لمن فقدوا أعينهم في ثورة يناير (Getty)

في روايته "أرخبيل غولاغ" كشَف الروائي الروسي ألكسندر سولجينيتسن، فظائع المديرية العامّة للمعسكرات والمعتقلات، فسارعت المخابرات الروسية إلى إيقاف مساعِدَتِه يليزافيتا فورونيانسكايا، والتي دلَّتهم بدورها على مكان وجود نسخة الرواية المكتوبة بخطّ اليد، وفور عودتها إلى منزلها شنَقت نفسها. لكن هذا الحادث لم يزد سولجينيتسن إلّا إصراراً على نَشْر الرواية وإعلان موقفه الرافض للأيديولوجية الشيوعية، فاتُّهم بالخيانة و"الافتراء على النظام السياسي والاجتماعي". وأطلقوا عليه "المُنشقَّ الأدبي"، وسُحبت منه الجنسية ونُفي للخارج. وحين انتقل إلى الولايات المتّحدة أعلن عن مواقفَ حادّة انتقد بها الغرب وازدواجية فكره وسلوكه. 

بوريس باسترناك مؤلّف رواية "دكتور زيفاغو"، نجا من السجن بمحض الصُّدفة، حين عرضوا على ستالين قائمة أسماء الكتّاب المُزمع اعتقالهم، فحذف اسم باسترناك بسبب إعجابه بترجمته البارعة لأعمال شكسبير إلى اللغة الروسية، ورغم ذلك لم يتوقّف باسترناك عن انتقاد النظام الشيوعي وممارساته القمعية. 

كان فكتور هوغو أيضاً مُعارِضاً حادّاً لنظام نابليون الثالث وتعرّض للنفي والتضييق. فيما تحوّل بابلو نيرودا إلى ناشط سياسي مُعارض للدكتاتورية خلال حُكم بينوشيه. وعلى الرغم من كون دوستويفسكي محافظاً سياسياً، إلّا أنه كان في شبابه معارضاً لنظام القيصر، وسُجن بسبب آرائه، ثم نُفي إلى سيبيريا. أمّا ماركيز فقد عارض الدكتاتورية في أميركا اللاتينية بشراسة، كما عارضها جورجي أمادو في البرازيل. كذلك كان روبرتو بولانيو وإيزابيل اللندي وخوسيه دونسو في تشيلي. 

الخوف من خسارة الجمهور مسَخ أفكار بعض المثقّفين ومواقفهم 

ولا يكاد الباحث في التاريخ الأدبي يعثر على كاتب معروف لم يعتنق موقفاً سياسياً مُعلناً يُعبّر به عن تطلّعات شعبه في الفترات التاريخية الحَرجة، بل كثيراً ما كان تيّار المواقف يجرف صاحبه إلى النشاط السياسي المباشر، حتى يصل بعضهم إلى مصافّ السُّلطة تنفيذية وتشريعية. 

وفي الوطن العربي قد تندلع ثورة باهرة، أو تنشب حرب ظالمة، أو تنهض أحداث سياسية كبرى، أو ربّما يكون الحدث ذا طابع ثقافي، كأن تُصادَر رواية، أو يعتقل كاتب رأي، أو تُصادَر صحيفة، ثم تنظر حولك لتطالع مواقف الجميع، وفي ظنّك أن للحدث وجهاً واحداً ساطعاً لا يقبل شكّاً ولا يحتمل التباساً، وأنّ له طاقة تحريك ذاتية للفكر والوجدان والمواقف لا تعطّلها مسكّنات الاختلاف أو التمهُّل أو اعتياد الحلول الوسطى. لكنّك ستُفَاجَأ بكثيرين يتوارون خلف جُدران الصمت المطبق، نموذجاً للكاتب المثقّف المعزول عن سياقه التاريخي العام. وتحت لافتة "السياسة شأن عابر، أمّا الأدب فأبقى وأعمق"، كما قال بورخيس، ستجد كثيراً من المُبدعين العرب يبرعون في تعليل عدم إعلانهم مواقف عامّة تجاه قضايا كبرى تخصّ الشعوب، في خلط متعمّد بين الممارسة السياسة بمفهومها الضيّق، والمواقف الأخلاقية باعتبارها انحيازاً. إذ تتلاشى الحدود بين مفاهيم المثقّف العضوي والعامّ والتقليدي، على طريقة غرامشي. 

تذرُّع مصلحي بمقولات من قبيل "السياسة شأن عابر"

ويُصبح المثقّف هو ذاك الذي بنى أو بُنيت له غرفة زجاجية مليئة بالكتب وحفلات التوقيع والمناقشات الأدبية والصراعات الهامشية، فقرّر أن ينظر إلى العالَم من وراء الزجاج، مقتنعاً بأبيات "العرّاف الأعمى" لأمل دنقل التي أطلقها رافضاً لها ساخراً ممّن يعتنقها: "لم نُولد لنهزّ الدنيا، لم نخلق لنخوض معارك، نحن وُلدنا للإلهام، للأحلام، للصلوات". 

قبل فترة خصّص أحد الإعلاميّين فقرة كاملة في برنامج "توك شو" شهير لمهاجمة روائي معروف كتَب منشوراً يبحث فيه عن حلول اقتصادية مُغايرة لحلول السلطة. وانصبّ الهجوم حول سؤال استفهامي واستنكاري في آن: ماذا يفهم الروائي ليُدلي برأيه في الاقتصاد أو السياسة، أنت مجرّد مؤلّف! 

تمّ تحويل الكاتب إلى مجرّد "صانع محتوى" لا صانع رأي عام

هذه العبارة على خطورتها، إنما تعكس رؤية حقيقية لما أصبحت عليه النظرة العامة إلى المثقّف العربي، في ظلّ التوجُّه الحثيث نحو "تحييده"، وتكريس صورته "مؤلّفاً"، تماماً كصورة الشاعر القديمة، الذي يستمدّ إبداعه من ربّات الشعر وإلهامات وادي عبقر، وليس من معايشته وتأثّره وتأثيره في محيطه الاجتماعي. 

لقد بُذلت جهود جبّارة لتكريس هذا التوجّه؛ وإقناع الكاتب بأنه لا يصلح سوى للكتابة، وبأنه ليس إلّا "صانع محتوى"، وليس صانع رأي عام، ولا موجِّهاً للفكر، هو مؤلّف يتوجّه للقرّاء بما يكتب، وما يريد بثّه من أفكار أو أيديولوجيا عليه أن يُضمّنها رمزيّاً في كتاباته. لكن لماذا صدّق المثقّف نفسه هذه الرؤية، وتماهى معها إلى هذا الحدّ؟ لماذا اعتنق المثقّف مسلك لاعبي الكُرة المحكومين بقواعد "فيفا"؟ تلك القواعد التي تنأى باللاعبين عن السياسة والدين والتمييز والتنميط. وكالفنّان الذي يخشى خسارة جمهوره بموقف مُعلَن، فمُسخت أفكارُه ومواقفه ولم يعد قادراً على فهم السياق العامّ وتكوين موقف أخلاقي تجاه قضية معينة. 

حتى بورخيس صاحب عبارة "السياسة شأن عابر"، كان ناقداً لاذعاً للدكتاتوريات العسكرية في بلاده، بل أعلن صراحة رفضه لاستيلاء الجيش على الحُكم في الأرجنتين عام 1976، ووصفه بأنّها "عارٌ على الأُمّة"، معتبراً موقفه أخلاقياً أكثر منه سياسيّاً. 

كان إدوارد سعيد مُخلصاً لموقفه من قضيّته التي يُدافع عنها من موقعه الأكاديمي، وكان محمد الماغوط، وغسان كنفاني ومحمود درويش وأدونيس، كلٌ من موقع مختلف. توفيق الحكيم يقول: "الكاتب ليس سياسياً بالضرورة، ولكنّه ضمير الأُمّة". وآمن جورج أورويل بأنّ كلّ كتابة هي سياسية بالضرورة، بل قال: "إنّ الرأي القائل بأن الفنّ يجب أن يكون غير سياسي هو بحدّ ذاته موقف سياسي"، وقد جسّد في كتاباته مواقفَه الواضحه تُجاه الفساد والاستبداد. كما رأى نجيب محفوظ أنّ الكاتب لا يُمكن أن يكون محايداً تماماً، وأنه لا يوجد أدب بعيد عن السياسة، ولكن الفرق في درجة التفاعُل بينهما. 

كذلك رأى سارتر وبريخت. أمّا ماريو برغاس يوسا، فانخرط في النشاط السياسي حتى كاد يفوز برئاسة البيرو ممثّلاً للجبهة الديمقراطية، بينما كان تروتسكي وزيراً للحربية، وغيفارا كان شاعراً قبل أن يتحوّل إلى رمز ثوري ووزيراً للصناعة. 

وقبل أن يُصبح الكاتب والمسرحي فاتسلاف هافيل أول رئيس لجمهورية التشيك، سُجن بسبب مواقفه السياسية الحادّة، ونشاطه السياسي المعارض، ما تسبّب في سجنه ومراقبته المستمرّة واستجوابه من قبل الشرطة السرّية، بل كتب واصفاً دوره كمعارض: "لم نُقرّر أن نُصبح معارضين قطّ، لقد أصبحنا كذلك دون أن نعرف الطريقة تماماً، وانتهى بنا الأمر أحياناً إلى السّجن دون أن نعرف الطريقة بالضبط. إننا ببساطة فعلنا أشياء كان يتعيّن علينا القيام بها، لا أكثر ولا أقلّ". 

ومثل هافيل كان الكاتب والروائي والمسرحي أرباد كونز أول رئيس مجري منتخب ديمقراطيّاً بين عامَي 1990 و2000، بعد نضال ومواقف سياسية منذ الثورة المجرية عام 1956، وكان عضواً مُؤسِّساً ونائب رئيس تحالف الديمقراطيّين الأحرار ورئيس الجمعية الوطنية المجرية. 

وقبل مئتي عام تقريباً أصبح الروائي إدوارد لايتون عضواً في مجلس العموم البريطاني، وبينما كانت دُور النشر تتابع نشر رواياته، كان يُمارس عملاً سياسياً قياديّاً في الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وزيراً للمستعمرات، وصاحب خطاب مفوّه قادر على استلاب أسماع الجماهير. أما بنجامين دزرائيلي، الروائي الإنكليزي الشهير، والزعيم الشبابي فصار رئيساً لمجلس العموم، ثم وزيراً للمالية، وتالياً شغل منصب رئيس الحكومة وكانت لسياسته أهداف جوهرية هي؛ الإصلاح الاجتماعي لصالح العمّال، وملكية شعبية قوية تكون رمزاً يتطلّعون إليه. وقبل هؤلاء شغل الشاعر الإيطالي دانتي منصباً سياسياً في فلورنسا قبل نفيه. وشيشرون الفيلسوف والشاعر والسياسي البارز في الجمهورية الرومانية. 

يتعلّل البعض بأن سقف الحرّية لا يسمح برفع القامة، لكنّ الجلي أن لا أحد اختبر ارتفاع السقف ليعلم ما هو مسموح بالفعل، بل اختار المسلك الآمن، ودخل في حظيرة التدجين لتصبح الرقابة الذاتية هي المظلّة الآمنة التي يختبئ تحتها، ليبدو الانشغال بالموقف السياسي مقبولاً لأستاذ الجامعة والطبيب والمحامي والمهندس والطالب. وغيرهم، لكنّه مستهجن من جانب الكاتب المثقّف، صاحب التأثير، من يُفترض به القدرة على استخدام اللغة ومهارة الإقناع والتحليل وصياغة الأفكار. ليس من قبيل مثالية الأديب التي تَحُول بين قناعاته وبراغماتية المصالح المتضاربة، إنّما إعلاءٌ لـ"الأنا مالية"، وتقديم الذات وحسابات الربح والخسارة، فانسحب المثقّف بمفهومه التاريخي، لتحُلّ صورة لاعب الكُرة النجم الذي يُبهر الجميع بمهاراته، ولا يفتح فاه إلا للإشادة بالجماهير والمدير الفنّي وإدارة النادي. 

* روائي من مصر



إقرأ المزيد