الجزيرة السورية.. رحلة إلى جنّة شكّلتها الحكايات
العربي الجديد -

سوري خلفه أبنية دمرتها غارات النظام البائد، دير الزور، 21 كانون الأول/ ديسمبر 2024 (Getty)

مع كلّ ذِكر للجزيرة السورية، يحضر إلى المُخيّلة تصوُّرٌ أوّلي لِجَنّة شكّلتها الحكايات، ومشاهدات الطفولة والمُراهقة، ولم تؤثّر على بريقها أحاديث الآخرين. رُبِّيتُ على حكايات جدّتي التي كان والدُها مجاهداً ضدّ الفرنسيّين، وعاش فترة طويلة في مدينة البوكمال حيث وُلدت، وفي سيرته كثير من المشتركات مع حكايات مألوفة لكثير من السوريّين، لم يبقَ منه سوى حكايات يردِّدُها البعض عنه، بالإضافة لبعض الصور بالسلاح والزيّ البدوي وشاهدة قبر تصفه بالمجاهد الذي قاتل الفرنسيّين ووصل إلى فلسطين مع المجاهدين. 

جدّي سليمان (والد جدّتي من جهة أُمّي)، كان مدير ناحية البوكمال، في الوقت الذي قرّر أن يُزوِّج ابنتَه لأمير من عائلة شيشانية وصلت مع مئات غيرها واستقرّت في الحسكة منتصف القرن التاسع عشر. أنجبتْ جدّتي منه طفلَين قبل أن يرحل، وتُقرّر الزواج من فلّاح "ميرعي" (ظلّت جدّتي تُعيّر جدّي بقبولها الزوّاج بفلّاح ميرعي، نسبةً إلى بلدة مارع، حتى أيّامهما الأخيرة)، يعمل في أراضيهم، ستُنجب منه ستّة أطفال، منهم أُمّي. 

الوشوم تغزو كفَّي ومعصمَي ووجه "فطيم" (جدّتي)، ولم أكُن أفهم لماذا كانت تُشكّل مصدر فخر لها، كانت تبدو الوشوم لي أحياناً جزءاً من عناصر العرض الحِكائي، بينما تقوم جدّتي بالرّوي أو وقت توسّطها العجائز فيما يُردّدن المواويل على رأس الميت وسط أرض الدار. 

تتالت الأيام وعاش أخوالي في حيّ الشعّار "الحلبي"، حيث انتقل خالي عبّود الجزراوي (كونه من الجزيرة السورية)، وعاش بالقُرب من أُمّه وأشقّائه، وبقيت له خالتي زهراء في مسقط رأسها برأس العين. أيام طفولتي، كانت زياراتي لبيت خالي عبّود هي الأَحبّ على قلبي لأنه عاش كشيخ في بيته؛ كرَمٌ وشهامة بدون حدود. اعتدنا على تحوّل بيته في حيّ الشعّار إلى مضافة أو سفارة للقادمين من الحسكة. سِيَرٌ وحكايا، وأنا جالس في زاوية المجلس، وأشعر بأنّي واحدٌ من السِّيَر التي يرويها الجزراويُّون. 

بقيت الجزيرة بالنسبة لي واحدةً من سِير الفردوس حتى سافرتُ لحضور أحد الأعراس هناك، لم أتجاوز التاسعة حينها، وتكرّرت الزيارة مرّتين أو ثلاثاً بعدها. لاحقاً، عشتُ ودرست في البوكمال لمدّة عام. أثوابٌ بألوان يفوق عددُها ريش الطاووس، فتياتٌ يرقصْنَ دون تعب لأيام مُتتالية، طعامٌ لا تزال تفوح رائحته في الذاكرة، لم أكُن حينها قد سمعتُ بذلك العدد الهائل من اللغات ووقعها وتعايشها وتآلفها، عربٌ وشيشان وكُرد وآشوريون وشركس وغجر وأرمن وأعراق لا أعرفها، والجميع منسجِم مع ذاته وحضوره. 

ملاحظة تحضرني الآن، أيضاً، هي انصهار الشيشان وغيرهم من الأقوام الموجودة في ثقافة المنطقة وإضافتهم لها وأخذهم منها دون أمراض وعُقد وكراهية وأحقاد دفينة وقاتلة تجدها في أماكن عديدة من سورية. 

في فترة المراهقة أثناء وجودي في فرقة مسرحية عُدت وتعرّفت على الحسكة من جديد، كانت هي المدينة السورية الوحيدة التي يوجد فيها أربعة أو خمسة مُخرجين مسرحيّين يُقدّمون أعمالاً تفوق ما كان يصدر من دمشق وحمص واللاذقية. بالإضافة إلى ملاحظة تأكّدت لي لاحقاً، بأن وجود المرأة على الخشبة وفي الحياة خارج الخشبة، أي أثناء المهرجانات والتعاطي مع الفِرَق المشاركة، كان مألوفاً جدّاً ولم يكن وجودها مُربكاً لها على العكس تماماً، وكان هذا إيجابياً وعاملاً دافعاً لوجود حالة مسرحية فريدة في الحسكة بالرغم من إفقارها، لكنّها مهمّة ولها حاضنة شعبية متطوّرة ومتفاعلة مع محيطها ومختلفة عن باقي المدن السورية (يُمكن استثناء حمص إلّا أن موقعها وحجم الاهتمام بها لا يمكن أن يقارن بما قُدّم ويُقدّم للحسكة).

لم أكُن أفهم لماذا ظلّت الوشوم تُشكّل مصدر فخر لها

بدأتُ الحياة الجامعية وعشتُ بدايةً في بيت فطيم في حيّ الشعّار، وأرادت أن تخطب لي فتاةً من عامودا (كنت في عمر الثامنة عشرة) وفعلاً خطبَتْها لي وتحمَّلت كامل النفقات ولم تستمرّ الخطوبة أكثر من ثلاثة أشهر، من حُسن حظّ الفتاة طبعاً. بعد الدراسة الجامعية في حلب انتقلت لدراسة المسرح في دمشق والعمل في أحد المشافي لأتمكّن من تحمّل نفقات الدراسة. هناك، بدأت أكتشف وجود أسماء من الجزيرة تعمل في الوسط الثقافي والفنّي وتحتقر منبتها ودائماً ما تُحاول وصفهم بالمتخلّفين وتُعزّز نشر صور نمطية عنهم وعن حياتهم و"تخلّفهم". نفسهم بالطبع صاروا ضدّ الثورة لاحقاً، وهذا طبيعي جدّاً. هؤلاء بدأتُ ألتقي أمثالهم في فرنسا من المهاجرين المحتقرين لمنبتهم والمدافعين بشدّة عن اليمين المتطرّف سرّاً أو علانية.

بالعودة إلى أهلي في الحسكة، اتُّهم محمد ابن خالتي زهرة (الجزراوية) بالانتماء إلى تنظيم "جُند الشام"، فاضطرّ إلى الهرب والعمل في الخليج. أخُوه الأصغر، عبد، تزوّج لاحقاً من ابنة عمّي. في عام 2009 قام عبد بزيارة أخيه الذي لم يره منذ سنوات وعند عودته تم اعتقاله من المطار واختفى لستّة أشهر. خرج عبد وآثار التعذيب على جسده وروحه. كان عبد شديد الحماسة للثورة وقليل الانفعال ولكنه كان صامتاً خلال لقاءاتنا في بدايات الثورة، إلى أن وصلنا نبأ استشهاده في رأس العين حيث ذهب مع زوجته وأولاده ليدافع عن أهله وكرامته. قُتل عبد يوم مجزرة الكيماوي، في الحادي والعشرين من آب/ أغسطس 2013، وعندما علمنا مرَّ الخبرُ سريعاً. بعدها بشهور تذكّرتُ عبداً واستعدتُ شيئاً من ذكراه ومن روحه الجميلة. 

تحوّل بيته في حيّ الشعّار إلى سفارة للقادمين من الحسكة

منذ ثلاث سنوات، التقيتُ مصادفة بتسعينية فرنسية وأخبرتني أن زوجها الأول كان سوريّاً وعندما سألتها من أي مدينة قالت: "من الحستشة"، وهي مقتنعة تماماً أنّ "الحستشة" تُكتب وتُلفظ هكذا. لم تكن "الحستشة" بخيرها وجمالها وشهامة أولادها في رأس العجوز الفرنسية مختلفة عن الصورة المحفورة في رأسي.

* كاتب سوري مقيم في فرنسا



إقرأ المزيد