مئوية جيل دولوز: تعرية الأسس الفلسفية لتبرير الإبادة
العربي الجديد -

جيل دولوز في أحد المعارض التي نُظّمت بـ"المركز الثقافي" في تولوز، 2019 (Getty)

رغم جسارتها، لم تشتهر مواقف الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925 - 1995) حول القضية الفلسطينية بالقدر الكافي، لا لدى القارئ العربي ولا الغربي. ربّما كان التعتيم عليها مقصوداً حتى لا يشيع ما كتبهُ فيلسوفٌ في مثل عمقه عن فلسطين فيُخلخل الرأي الأوروبي الذي احتلته "إعادات" تحجب الوعي وتُغرقه في الأخطاء.   

تعاطَف دولوز مع معاناة الشعب الفلسطيني وانتقد الصهيونية مقارناً جرائمها بما ارتكبه الأميركيون ضد السكان الأصليّين، حين أفرغوا أرضهم منهم واحتلوها. ثم مضى بهذه المقارنة بعيداً عندما اعتبر الفلسطينيين "هنود إسرائيل" الذين ارتُكِبت ضدّهم جريمة "الإفراغ"، الرديف الأقرب للإبادة. وقد ظهر هذا التعاطف جليّاً إثر مجزرة صبرا وشاتيلا (1982)، وظلَّ ثابتاً حتّى وفاته. إلا أن الإعلام الفرنسي يغيّب مواقفه هذه وعندما يُذكرها يهوّن من شأنها حتى لا يقترن مثل هذا الاسم بقضيتنا الأُمّ.  

ففي سنة 1983، أكّد دولوز في مقابلة أجراها مع مجلة "دراسات فلسطينية" أنَّ ما يجري على هذه الأرض "إبادة لا تقول اسمها" لأنَّ "إسرائيل" تجبر شعباً بأسره على دفع ثمن ما ارتكبته أوروبا في حقها من أهوال نازيّة وتبرّر أعمالها هذه بسردية متهافتة، سلّط عليها دولوز جهازه النقدي ليكشف حجم "الخطل" والتزييف فيها. 

ويعدّ مبدأ "الحماقة" (bêtise) أو "الخطل" من بين المداخل الممكنة لاستعادة فكر الرجل حيث جعل منه نقيض الفلسفة بما هي مواجهة لإشكالات العالَم واشتباك معها، اجتهاداً في حلها. فعندما يتوقّف العقل عن التفكير في معضلات الوجود ويقنع بما يتوفّر لديه من تصورات مُستهلكة، يسقط في التكرار والوهن لا محالة. وهذا ما نجد صداه في كتابه: "الاختلاف والإعادة، منطق المعنى" (1968) الذي فكّك فيه تكرير الإجابات وإعادة إنتاجها دون مراجعة.

كانت مجزرة صبرا وشاتيلا لحظة فارقة في مسيرته الفكرية 
 

ويشمل "الخطل" التصديق الجماعي بمقولات الحسّ المشترك التي يغرق فيها الوعي حين يكفُّ عن التفكير. وهذا ما وقع فيه بعض فلاسفة اليمين الذين انتقد دولوز هوَسَهم بتكرار مقولة "نهاية التاريخ" ومنها انزلقوا في تبرير الليبرالية والرأسمالية، وما يتبعهما من تغوّل الشركات العملاقة، التي تحتكر الثروة والإعلام وتدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة.  

فمن الحماقة أن نقتنع بالإجابات العامّة التي تصبح "دوكسا" تُفقد الفكر قدرته على إبداع التصوّرات: يلوك هذا الرأي العام تصوّراً مُستهلكاً فيفقد أصالته ويتحوّل إلى سياج يمنع النقد والاختلاف. وهكذا، فالمفهوم - المفتاح لدى دولوز هو الإعادة، أي تكرار الرأي نفسه مراراً حتّى تذوي إمكانات التخييل والابتكار في نسق التضليل، مما يمنع أي تساؤل يوقف الزيف ويولّد المغايرة.  

وهذا ما نشهده اليوم حين تستمر وسائل الإعلام الغربية في إعادة إنتاج السرديات نفسها حول حرب الإبادة في غزّة، هازئة بعقول الشعوب وبقدرتها على التحليل. فالاختلاف ضروريّ لفهم مظاهر "الخطل" في زمننا باعتباره التصديق الجماعي للسردية الصهيونية، بما في ذلك تبرير حروبها المستمرّة على مدار العقود الماضية والتي راح ضحيّتها مئات الآلاف، مع أنّها تسوّق كتصوّر متجانس يقوم على الدفاع عن النفس.  

كما آمن دولوز بمبدأ "المعاصرة" الذي يعني إمكان تعايش المفاهيم في الذهن نفسه، رغم تباعد أزمانها وانتمائها إلى حقب متفاوتة في التاريخ. ففي بدء مسيرته، تعامل دولوز مع التراث الإغريقي، ثمَّ قرأ نتاج كلٍّ من سبينوزا، وليبنتز، وهيوم، وكانط، ونيتشه، وبرغسون وفوكو وغيرهم لتوصيف الإشكالات المستجدّة. وفي تراثهم وجد مفاتيح لمعضلات العالَم الراهنة، ممّا ساعده على تحليلها وربّما حلّها. وهذا ما جعله يمارس التفلسف بشكل مباينٍ للعقلانية الكلاسيكية التي جمدت على قوالبها المُسبقة. 

فالاختلاف محاورةٌ لتاريخ الفلسفة دون الاعتماد على منطق الهُوية والتطابق وعدم التناقض الذي ساد طويلاً. ساءل دولوز تراث هؤلاء الأسلاف واقفاً عند المواطن التي اضطربت فيها عباراتهم ولم تنضج منها المفاهيم لاعتقاده أن الفلسفة في صميمها عَودٌ إلى مظان الحيرة و"التأتأة"، حين يعجز الفيلسوف عن تقديم جوابٍ مقنع، ويتيه في مضائق القول/الفكر. 

كما ركّز صاحب "التجريبية والذاتية" (1953) على الاختلاف والهوية والمغايرة والابتكار باعتبارها ركائز التفلسُف الحديث بعدما تخلّى عن التصوّرات الميتافيزيقية بأسمائها الغائمة وخطابها المُستهلك. ولذلك درس تحوّلات الهوامش عبر إنشاء لغة جديدة داخل اللغة الرسميّة، تمرّداً عليها من أجل المضي بها إلى "تخومها القصوى" عبر علاقات خارجية مختلفة ومتشابكة. ففي كتاب "ما الفلسفة؟" (1991) الذي ألّفه بالاشتراك مع ف. غاتاري، دلّل على ارتباط التفكير بأرضية اللغة التي تقف فوقها المفاهيم.   

ومن أبرز ما يتولّد فوق هذه الأرضية مفهوم "الفردانية" بجميع أشكالها التسلّطية التي تمارس بذريعة وجود هوية متعالية مطلقة. لذلك، عبّر عن تضامنه الصريح مع الهويات المقهورة التي عانت وطأة الاستلاب نتيجة تضخم الأنا وهيمنة اللاوعي وآلياته الرغائبية. كما انتقد تمثيلات الفكر التي تشتغل لبناء تصوّرات عن العالم قدّمها على أنها قضايا تخضع لاختبار الصدق أو الكذب، مع أنها إبداع متغيّر في تفاعل دائم مع الموضوع المُفكَّر فيه. وهذا ما توصّل إليه دولوز بتركيزه على الأسئلة المهمّشة بعدما قلب الطاولة على مبدأ "اللاوعي"، عندما ناقش آراء كلٍّ من فرويد ولاكان. 

تضامنَ مع الهويات المقهورة التي عانت الاستلاب والاستعمار
 

وقد سبق لجون- كلي مارتان أن أشار في السيرة التي خصّصها له، وهي بعنوان "متغيّرات: فلسفة ديلوز" (1993) إلى أنّ أسلوب الكاتب وجيز مكثّف ينفذ إلى جوهر الأشياء بعيداً عن الثرثرة التي برع فيها بعض فلاسفة ما بعد الحداثة والذين لم يكن لهم من همٍّ سوى ادعاء امتلاك الحقيقة، كما نادى بإعادة اكتشاف نصوصه لاستجلاء عمق أسلوبها الفلسفي والأدبي. 

ورغم أصالة الإرث الديلوزي وثرائه، لم يشكّل الاحتلال مفهوماً محورياً فيه، إذ لم يسلِّط عليه جهازه النقدي ولم يتناول القضية الفلسطينية إلا في أوراق عَرَضية. كما أنّه لم يُسائل تاريخ الاستعمار الفرنسي، مع أنّه كان معاصراً له وغير بعيد عن انشغالاته الذهنية. اختيار منهجي لكنه يُلقي بظلاله على تراثه الغزير ويدفعنا بدورنا إلى مساءلته كما ساءل هو أسلافه في عود أبدي للنقد والتفكيك.  

ولعل ما نحتاجه اليوم هو دراسة عربية معمّقة لمواقف دولوز المتفرّقة حول قضيّتنا الأُمّ، توثّقها وتحقّقها بهدف تحليلها ضمن نظرية نقدية تضعها في سياق التمثّلات الغربية التي كانت سائدة في عصره. وبهذه الخلاصة، ينبغي خوض معركة فكرية مع مثقّفي اليمين وفلاسفة "نهاية التاريخ" الذين ناقشهم دولوز، وهم أنفسهم الذين لا يزالون يبرّرون الإبادة اليوم.  

وهنا لا بدّ من أن تذكّر جهود المفكّر السوري الراحل مطاع صفدي في ترجماته لكتب جيل دولوز، ولا سيما "ما هي الفلسفة؟" (1997) وفي نشر مفاهيمه وتطعيم الفكر العربي بها، إسهاماً في إثرائه ونشراً للنهج الإشكالي الذي يزيل عن البداهات بداهتها، مع أنّها حماقات تتكلّس عبر الزمن.  

* باحث وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس



إقرأ المزيد