"معبر الأسد" لماساتسوغو أونو.. ازدواجات دورة الزمن
العربي الجديد -

صورةٌ تجمع بين شتيتَين وتصلُ بينهما رغم البُعد

"معبر الأسد" هي رواية الكاتب الياباني ماساتسوغو أونو، الذي يعدُّ من البارزين في الجيل الجديد للرواية اليابانية، وقد حاز في أعماله عدداً وفيراً من الجوائز المهمة. في مطلع الرواية (صدرت عن "دار الفرجاني"، بـ ترجمة ناهد المرعي) نقرأ "همس صوتها، وكأنّه حفيفُ أوراق أعشاب تتمايل مع الهواء"، هذه الصورة التي تجمع بين شتيتَين، وتصلُهما، على بُعدِهما، برباط حقيقي، ليست وحدها.

إنّها أسلوب يُستعاد باستمرار في نصّ الرواية، نقرأه في أماكن أُخرى "سيشعر تاكيرو بأنّ البحر الذي لا يريد رؤيته، هو حدقتا عينَي أخيه ذاتهما"، "وكانت تقصد بذلك نفسها وليس الحقيبة"، "كانت طيور الجبال تزقزق فوق ستارة شكلتها أصوات الزيز"، "كانت بعض القطط تموء في مكان ما، كان هذا المكان أعماق تاكيرو"، "لقد اختلطت مناغاة الأم المفعمة بالحنان مع ثنايا الشرشف"، "لقد بدا البحر والسماء زوجين من الوحوش"، "ولأن صوت ضحك تاكيرو الفرد كان عالياً، فقد يكون صوت ضحكة الأموات النائمين في القبر".

تتوارد هذه الصور كثيراً، ولن يكون مديحاً لها القول إنّها قريبة من الشعر، فهذا الازدواج والالتباس وتلك المزاوجات الفريدة ليست استدعاءً للشعر، بقدر ما تكاد تكون مبنى الرواية، التي كل ما فيها من أشخاص، وحتى مشاهد وكائنات، تحظى بهذا الازدواج وبهذين البعدين، وذلك الالتباس بين الأشخاص والمواضع والأزمنة.

شخصيات تعيش التباساً بين الأدوار والمواضع والأزمنة

تاكيرو هو الشخصية الرئيسية في الرواية، لكنه قد لا يكون واحداً، بل ونحن نستطرد في القراءة نصادف منذ البداية بنجي الذي لن نلتقي به في البدء إلا في كلام تاكيرو. إنّه أخوه الأكبر، لكنه في تلميحات تاكيرو معاق. نحن لا نسمع له صوتاً إلا عبر تاكيرو، إنّه يتكلم في تاكيرو ويتحرّك ويعمل داخله. هذا الداخل لا يتّسع فقط لبنجي بل يتسع لكثير من أموات وأحياء. تاكيرو عند نفسه هادئ، صموت، مؤنس، يتلقّى على الدوام تعاطفات الآخرين، الذين واحداً تلو الآخر يقدّمون له طعاماً ويساعدونه ويحدبون عليه. لكنّنا مع ذلك نراه، بقصد من الروائي بكّاء، يدفعه كلّ شيء، صعب أو سهل، جيّد أو سيئ، إلى البكاء. نرى بنجي دائماً، كما يصلنا من تاكيرو، راقداً على حصيرة موصولاً بها.

تاكيرو يدافع عن أخيه الأكبر، كلّ مرّة يجد من لا يقدّره فيها. ما مكان بنجي من تاكيرو، بنجي المختفي فيه؟ قد يكون وجهاً آخر له، بل قد يكون وجهه الحقيقي. لن يصعب على القارئ أن يفترضه جزءاً منه. هنالك أيضاً بنجي آخر يصادفه تاكيرو، وبنجي هذا هو أيضاً أخ لتاكيشي، الذي نفهم أنه لفظ آخر لتاكيرو. هنالك إذاً بنجي وتاكيرو آخران في الوقت ذاته. أم تاكيرو المهملة التي تعمر بيتها بالفوضى، والتي ترسل ولديها إلى المدرسة بدون غذاء، هي عشيقة رجل قاس ينهال عليها ضرباً وتعنيفاً.

لكن هنالك أيضاً ساكي التي تصغر تاكيرو عمراً وإن كانت تفوقه جرأة، والتي تكاد تكون شريكته الدائمة. مع ساكي هنالك الأسود الطيب والعجوز التي لا تتوقف عن الاعتذار. هذه هي الشخصيات التي تدافع عن تاكيرو وتحميه. لكن تاكيرو البكّاء الهادئ، هو أيضاً صديق الحيوانات والدلافين، وهو يعلم أنّ ثمّة دلفيناً هو جوني يقوم بمهمة الطبيب للمعاقين وللمعانين من أمراض عصبية. يريد تاكيرو أن يقصده ليشفي أخاه. كلّ هذا الازدواج في السرد وفي الأسلوب يجري بقدر من واقعية تضمر كلّ هذه المفارقات، بدون أن تُعلنها. تبقيها في مجال التلميح والإيعاز، بنوع من التسلسل والدّقة والتفصيل.

إلّا أنَّ الرواية لا تبقى على هذه الحال، إذ إننا في خاتمتها نفهم أنَّ زمن الرواية يتقطع ما بين الماضي والحاضر. إنّها حدثت مراراً، بشخصيّتيها تاكيرو وبنجي اللذين قد يكونان واحداً، حدثت في ماضٍ، وتستعد لتحدث في حاضر، وربّما في مستقبل. عند ذلك نعيد تفكيرنا في الرواية ونفهم أنها منذ البداية كانت بهذا الالتباس. إن ازدواج تاكيرو وبنجي ليس ابن لحظته فحسب، بل يتحدّر من ماضٍ قريب وكأنّه في ذلك دورة الزمن التي لا تزال تُستعاد وتتكرّر. تاكيرو قد يكون كلّ هؤلاء الأشخاص الذين مرّوا في الرواية. وقد تكون الرواية جرت عبره وانتهت معه. قد يكون هو الآخر محض ظلّ، هو في عودته الدائمة أكثر من أن يكون حقيقياً، خاصة ونحن نراه دائماً تحت الشيء الكبير والأشياء الكبيرة التي قد تكون هي الأخرى أشباه آلهة أو آلهة ليس لها اسمها، أو أن الزمن الذي لا يفتأ يتكرّر هو الإله الحقيقي في القصة.


* شاعر وروائي من لبنان



إقرأ المزيد