العربي الجديد - 2/8/2025 8:31:36 AM - GMT (+3 )

تسمع من فنّانَين اثنَين يتقاسمان 33 لوحة في معرض مشترك وَصْفَ "البساطة" لكلٍّ من التجربتَين، ما يبدو مُغرياً لتأمُّل ما يقوله الواحد منهما عن هذه البساطة التي تخصُّه، وهي تختلف بالضرورة الفنّية ما بين زاويتين وفكرتين وسطحين.
والمعرض الذي سنُعاينه يحمل عنوان "شفافية"، للفنّانَين المغربيَّين حكيم غزالي (1963)، وخالد البكاي (1966)، في "غاليري المرخية" بالعاصمة القطرية الدوحة، وقد افتُتح في الثامن والعشرين من الشهر الماضي، ويستمرّ حتى الرابع من نيسان/ إبريل المقبل.
ولربّما اختار القائمون على المعرض أن يجمعوا كلّ هذه الأعمال تحت وصف الشفافية لقُدرة هذه الكلمة على حمل أكبر قدر من التأويلات، سواء في ما تشفُّ كلُّ رؤية عن ذاتها، أو ما تمنحه الحواريّة البَصرية بين شريكَين في محطّة المرخيّة، التي بالمناسبة سيكون معرضها هذا الأخير للرُّبع الأول من عام 2025.
يُدافع غزالي عن فنّه كعمل مُضنٍ لا التزاماً بمدرسة معينة
يأخذ الحديث عن معالجات الأسطُح طابعاً تقنيّاً مهارياً، قبل أن يُساعدنا هذا المعرض على رؤية هذا الحظّ الوافر من السطوح ذات الهويّتين اللتين تلتقيان على تفاهُم ومصافحة تشكيليّة تفيد بأنّنا لكلٍّ منّا لهجتُه، سنحرص على اختلاف بعضنا عن البعض قدر الإمكان. فهذا حكيم غزالي حين يُوصف شغله بالتصوُّف التشكيلي في العديد من كتابات النقّاد، فلأنّ السطح المتجانس الذي لا يوجد فيه ناشز هو نتاج سطوح متراكمة وحُرّة من الالتزام، بحسب ما قاله الفنّان لـ"العربي الجديد".
وكيلا تكون كلمة الالتزام مشيرةً إلى طريقة فنّية تحت مدرسة ونهج ما، فإنه يُعطي للكلمة جدارتها حين يجعلها غير مقترنة بالالتزام السياسي والأخلاقي. فهو يصرّ على التزامه بوصفه مواطناً ذا انتماء إلى قضايا، وحرّاً من أي موضوع على الفضاء الذي سيتشكّل أمامه. يستغرق غزالي مطوّلاً في شغله على خامات معجونة ببعضها أو مُضافة بطريقة "سحرية" كأنها مرسومة، لا كولاج متنوّع يُدير انسجامه على السطح.
نسمع في القاعة وصف السحرية التي تقدّم هذا الشكل الدقيق المُقدّر بميزان بالغ الحساسية، فأُشير إلى الفنّان إلى التعليق فيرفض الوصف مُضيفاً حتى إنه يرفض الانتساب إلى مدرسة فنّية، ويدافع فقط عن فنّه بوصفه عملاً مُضنياً يذكر بمقطع الشاعر محمود درويش إذ يقول: "القصيدة رميةُ نرْد على رقعة من ظلام".
لقد وصل الفنّان إلى هذه المرحلة التي لا يرسم فيها، بل يكتب ببساطة وتقشُّف. هذه المرحلة التي يكوّن فيها النَّصّ المكتوب طريقه إلى رؤية اللوحة من خلال الكتابة، حتى إنه يقول: "هي مرحلة نزعتُ فيها ما تُمكن تسميتُه الإلهام والمخيّلة وبتُّ أقرأ مع فنجان القهوة وأراقب كيف تتحوّل الكتابة إلى عمل تصويري". هو قبل ذلك خاض تجارب عديدة في الحروف العربية مثل الألف الذكورة والنون النسوة، والكاف الصلابة والمرونة، وكذلك الرسم بلون واحد، بما فيه من صراع مع الذات لا يعرف من يفوز به، الفنّان أم اللون الواحد؟ لا بل إنّ الجماليات تتمرّد على مألوفها، حين تُقرأ الحروف معكوسة. يحرص غزالي على ملامسة السرّ الغريب من خلال الحروف المقلوبة.
وبالجملة، فإنّ التأمّلات البصرية عنده تبدو بالفعل خارجة من ولادات سطوح متعدّدة متقادمة على بعضها، وتظهر فيها الحروف بقوّة خلقها الأول، وهي في مساره على مدار ثلاثة عقود تتّخذ من النافذة الصُّوفية مركز إشراقها الخافت. في كلّ لوحة يدفعنا غزالي إلى هذه النافذة ويختفي.
يستلهم البكاي سيقان البامبو ويتّخذها ثيمة في أغلب أعماله
في الرحلة مع خالد البكاي، خصوصاً الأخيرة إلى الصين، تبدو المساحات أبسط وأوضح وهي تُراهن دائماً على عين دقيقة تلتقط الألوان وتدفّقها على الفكرة في اللحظة التي يتّخذ الفنّان قراراً يحدّد مسارها. الفكرة إذن تقوم على تحوّل نوعي مهمّ في السنوات العشر الأخيرة. فقد قضى الفنّان ثلاثة عقود في برشلونة، وهو حتى الآن يتنقّل في عيشه بينها وبين الدار البيضاء. وطوال هذه العقود تركّزت أعماله على الحوار الحضاري العربي الأوروبي، حتى تلقّيه دعوة من بكين عام 2015.
"بين عشيّة وضحاها غيّرتني الصين". هكذا هي الحال مع المسيرة الجديدة التي طبعها شجر البامبو أو الخيزران الصيني الأيقوني في تلك البلاد، في غاباته وهي تعجّ بما لا يُحصى من الأسطوانات الخضراء الشاهقة إلى السماء بارتفاع يتجاوز العشرين متراً.
كذلك تعرّف البكاي إلى الورق الصيني في "أوّل منزل" له، حيث سيظلّ واحداً من أعظم الاختراعات البشرية، وعليه رأى الفنّان أعمالاً ضخمة بالحبر الصيني لم يرها من قبل، وكانت طريقه الجديدة تتهجّى الرؤية العمودية، وقد كان.
فأعماله التي نالت إعجاب الصينيّين، وطافت في معارض عديدة حول العالَم تكتب اللغة العربية من الأعلى إلى الأسفل كما تكتب الصينية. ثم أصبحت سيقان البامبو ثيمة في كلّ اللوحات دون أن تكون مرسومة فوتوغرافياً، بل تستلهم صعودها العمودي.
هذا فارق نوعي بين جارَين في حيّز واحد للفنّانين غزالي والبكاي، وهما بالمناسبة أصيلا مدينة الدار البيضاء، فعلى جدران طابقَي الغاليري هذا التجوال البصري لحروف العربية معكوسٌ من اليسار إلى اليمين والمنظور العميق للذات الترابية، يقابله عالم صاعد دائماً للأعلى بخفّة مع نصوص عربية داخل أسطوانات ضوئية أو هابطة على الورق الصيني من الأعلى أو في كتاب "آرت بوك".
إقرأ المزيد