بناء الأدب
العربي الجديد -

من المعروف تقريباً أنه بعد كلّ ثورة فشلت أو نجحت، نشأت أشكال تعبيرية معيّنة تحاول أن تناسب الوضع أو الحالة التي حدثت في المحيط البشري. حدث هذا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ماتت أشكال وتجدّدت أنواع ونشأت أشكال أُخرى وأساليب للتعبير مختلفة. فما الذي حدث بعد الثورات العربية؟ 

أظنّ أنّ علينا أن نُعيد صياغة السؤال أو نؤخّر طرحه ريثما نعثر على الأساس الذي يدفع الأدب والفنّ للثورة، وهو: هل يتحتّم على الأدب أن يُحقّق ثورة في الكتابة بالتزامن مع الثورة السياسية؟

لا يُحبّذ تاريخ الأدب الموافقة على التصريح بضرورة تحقُّق هذا الأمر، ولا شكّ في أنّ العلاقة بين الأدب والفنّ من جهة، وتبدّلات الواقع من جهة ثانية، لا تسير في منحىً متزامن، فلا يتغيّر الأدب تبعاً للتغيّرات السياسية إلّا إذا كانت تلك المتغيّرات ذات طبيعة انقلابية أو ثورية، تغيُّر النظام الاجتماعي كلّه، لا النظام السياسي وحده.

هل كان مطلوباً من الأدب العربي أو السوري أن يُحقّق ثورة في الأدب والفن؟

ومثال ذلك هو حال الأدب والفنّ في روسيا بعد ثورة أكتوبر/ تشرين الأول 1917. فقد كانت البلاد تشهد ثورة فكرية (هذا هو المُعلَن) على الصعيد الاجتماعي والسياسي، وكانت النيّة تتّجه لتهديم المجتمع الرأسمالي وبناء مجتمع اشتراكي جديد ومختلف تماماً، بينما حاول الأدباء والفنّانون ابتكار أساليب جديدة في التعبير عن المضامين الجديدة التي تُواجه استحقاقات المجتمع الذي يُراد بناؤه. وبغَضِّ النَّظر عن نجاح المحاولات، مثل اختراع موضوع الواقعية الاشتراكية التي لم تُكتب لها الحياة، وفشلها أو إفشالها، كما حدث لحركة المستقبليّين، فإنّ الأدباء والفنّانين كانوا قد انتبهوا إلى ضرورات التغيُّر على صعيدَي الشكل والمضمون. 

وهناك من يميل إلى القول بأن كلّ ثورات الأدب حدثت بتأثير ما من التبدُّلات التي يشهدها الواقع الاجتماعي والسياسي. صحيح أنه من الصعب قياس الأثر، ولكن من غير المُمكن أن تحدُث ثورة بيكاسو في الفنّ لو عاش في القرن الثامن عشر. فقد قدّم لنا الأشكال التي يتطلّبها عصرُنا ويستطيع أن يفهمها، إضافة إلى شروط العصر وموهبة الفنّان نفسه معاً. والأمر نفسه يُقال عن الرواية الشهيرة: "يوليسيس"، إذ لم يكن من المُمكن أن تُكتب في القرن التاسع عشر، كما لم تكن مُمكنة كتابتها لو لم يُولد كاتب اسمُه جيمس جويس.   

وقد تجاهَل الثوّار العرب في العقد الماضي مسائل الثورة الاجتماعية أو أهملوها، إذ لم تكُن من بين مطالب الثورات العربية، أن يُعاد تشكيل الوعي بما يتناسب مع مطالب الثورة السياسية، التي أرادت إسقاط أنظمة سياسية مُستبدَّة استطاعت طوال أكثر من نصف قرن إرغام المجتمع على التكيّف مع منظورها العام لكلّ قضايا الحياة. 

ولكن هل كان مطلوباً من الأدب العربي أو الأدب السوري أن يُحقّق ثورة في الأدب والفنّ؟ أعتقد أنّ على الجواب أن يكون: لا. فالسنوات العشر القليلة لم تُفسح المجال المكاني أو الزماني لأيّ كاتب سوري أن ينصرف لتحقيق مثل هذا المطلب، وقد يُتاح ذلك في الزمن القادم الذي نأمل أن يكون الاهتمام ببناء الثقافة موازٍ للاهتمام ببناء الدولة الجديدة.


* روائي من سورية



إقرأ المزيد