"وردة في صحارى الأبد" لبيحن جلالي... مختارات بالعربية
العربي الجديد -

في حديثه عن شعره، لا ينكر الشاعر الإيراني بيجن جلالي (1927 - 2000) تأثّره بالشعر الفرنسي، إذ يقول: "بودلير هو أوّل شاعرٍ فرنسي اقتنيتُ ديوانَه، ثم اشتريتُ نسخةً من مختارات شعرية لبول فاليري؛ وهو شاعر صعبٌ وكنت أستمتعُ بالبُعدين التصويري والموسيقي لقصائده، ثم اشتريتُ أعمال رامبو وكان من الصعب عليَّ أن أفهم قصائدَه، ولكنّ أعماله الشعرية تحوّلت إلى رفيق دائم لي طوال حياتي".

هذا التأثّر سيكون حاسماً في مسيرة الشاعر والشعر الإيراني على حدّ سواء، فجلالي سيكون رافداً رئيسياً في الشعر الفارسي الحديث، واسماً لا جدل حوله في قصيدة النثر الفارسية التي أسهم بشكل جوهري في ترسيخ معالمها بعد أن كانت قصيدة التفعيلة أو القصيدة "النيمائية" (نسبة لـ نيما يوشيج 1897 - 1959) مهيمنة على المشهد الشعري.

هذا ما سنعرفه عن الشاعر الإيراني بيجن جلالي، وعن دوره في تطوُّر الشعر الحديث في إيران من خلال كتاب "وردة في صحارى الأبد"، الصادر، مؤخّراً، عن "منشورات مِيزوبوتاميا"، بترجمة الشاعر والمترجم العراقي محمد الأمين الكرخي. 

يتألّف الكتاب من منتخبات شعرية اختارها الكرخي من مجموعة دواوين شعرية لجلالي، بدءاً من مجموعته الشعرية الأولى "الأيام"، وانتهاءً بآخر ديوان صدر له هو "قصائد النهاية... قصائد الأقاصي"، وما بينهما من مجموعات أُخرى، مثل: "قصائد التراب، قصائد الشمس"، و"صورة العالم"، و"ماء وشمس". وقد استهلّ المترجم كتابه بمقدّمة يعرّف فيها بخصوصية الشاعر الإيراني وروحه المتمرّدة داخل الشعر الإيراني الحديث، إضافة إلى أهمّ سمات قصائده التي تعتمد البساطة والصراحة في التعبير، إضافة إلى وصف الحياة اليومية عبر القصيدة التي توقظ العالم كلّه. يقول: 

"بقصيدةٍ نُوقظ هذا العالَم،
نُحدّق بعينيه هنيهة
ثم نَخلُد للنَّوم صحبة العالَم".

غير أنّ هذا الارتباط العفوي بالكون وتفاصيله، كما يُشير المترجم في مقدّمته، يجب ألّا يُفهم على أنّ جلالي لم يتناول القضايا الوجودية الكبرى، مثل الحياة والموت والإله والماورائيات. هكذا استطاع الشاعر الإيراني أن يُدخل قصيدته في مختبر كيميائي مُنزّه عن حذلقة لغوية، لينتج بذلك مُعادلة القصيدة القائمة على الومضة، والتأمّل، والإيجاز. إنها قصائد تتحدّث من خلال الصمت. يقول: 

"الكلمات برُمَّتِها
تهرب مذعورة من بُركان الشعر
وتلوذ بقلب الشاعر".

يعتمد البساطة وصراحة التعبير في وصف الحياة اليومية

وإضافة إلى مقدّمة المترجم، آثر الكرخي أيضاً أن يتناول الصنعة الشعرية لدى الشاعر برواية بيجن نفسه عن شعره، إذ ترجم مقتطفات من حوارات متفرّقة أجراها الشاعر الإيراني متحدّثاً فيها عن مفهومه للشعر والشعراء، يقول: "يجب أن تكون القصيدة بسيطة وذات تعبير مباشر، لأن العديد من قصائد الشعر الحديث لا تُمكن قراءتها بسهولة، يُمكن أن تكون هذه ميزة بارزة في قصائدي، وهي بقول آخر طبيعية، أي أنها وُلدت لضرورة حقيقية، وليس بغية خلق عمل أدبي". في قصائد الكتاب ما يؤكّد ذلك: 

"سأَمضي صحبة قصائدي
لا طريقَ آخر لي.
سأَمضي في طريقٍ قَصِيٍّ
في قلب الناطقين بالفارسية".

إلى جانب هذه اللغة المباشرة والبسيطة، ثمّة أيضاً عالم روحاني خاصٌّ بالشاعر، تبرزه قصائد الكتاب بوضوح، إذ يمكن أن يشعر القارئ بتواصل الشاعر العميق مع كائنات هذا العالم، بدءاً من العصفور والشجرة، وصولاً إلى المفاهيم المُجرّدة والصوفية والمقدّسة مثل الإله، والروح، والخير، والضمير، مروراً بجسد الحبيبة الذي يسهّل العثور على معنى للعالم والذات. يقول:

"من أجلكِ سأنظُر إلى العالَم
من أجلكِ سأقطفُ الثّمار
من الأشجار
من أجلكِ سوف أسيرُ في الطُّرق
وأُحادِث العابرين
من أجلكِ
سوف أتصالحُ مع ذاتي.
بغية العثورِ على ذاتي". 

من يبحث عن معنى أو معادلة منطقية في قصائد الكتاب أشبه بمن يبحث عن إبرة في كومة قشّ. قصائد جلالي، كما يصفها هو نفسه، لا تستحوذ القارئ، بل تحاول أن تفتح لكلّ من يقرأها طريقاً للنموّ وآفاقاً للتفكير المُنفتح. يقول: 

"من أجلِ تحطيم الزمن
من أجلِ تقويض الزمن
من أجل كَسْر شوكة الزمن
لا حاجة للحجارة
ولا للمعول
يكفي إغلاق العين
والتفكير بساقية
مصبُّها بئر".
 



إقرأ المزيد