العربي الجديد - 1/21/2025 8:28:03 AM - GMT (+3 )
"الكتاب الذي لا يسافر لا يُعوّل عليه": تأثرت بهذه العبارة الموجودة على الصفحة الثالثة من كتاب "لي يدان لأكتب: شهادات من داخل غزّة"، فقررت خوض مشروع ترجمته، بالتعاون مع قرابة أربعين مترجمًا ومترجمة من إيطاليا، من بينهم زملاء أساتذة اللغة العربية وآدابها في جامعات مختلفة، وكذلك بعض طلابي السابقين الذين حصلوا بنجاح على شهادة الماستر. كان الجميع متحمسين للمشاركة بشكل تطوعي في مشروع يهدف إلى نقل شهادات الأشخاص الذين ما زالوا يعانون من حرب الإبادة الجماعية خارج حدود العالم العربي. فنحن مقتنعون بضرورة نشر كل هذه المواد في بلادنا التي تتجاهل وسائل إعلامها محنة الشعب الفلسطيني في أرضه المحتلة، فترش علينا سموم التضليل الممنهج يوميًا بواسطة بروباغندا وقحة منحازة لقوات الاحتلال.
يتكون "لي يدان لأكتب" من 222 نصًّا للعديد من الشعراء والصحافيين والمواطنين العاديين في غزّة، تغطي الفترة من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 إلى أيلول/ سبتمبر 2024. لقد جمعها طاقم من المحررين، تحت إشراف الشاعر موسى حوامدة، وهو مؤسس "دار تدوين للنشر" في عمّان. أعتقد أن هدفهم الأساسي كان ضمان تعدد وجهات النظر والموضوعات والأنواع (القصائد، واليوميات الحميمة، الأخبار والتأملات، والاعترافات وغيرها).
منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لاحظنا أن الشبكات الاجتماعية تعج بنصوص يروي فيها الغزيون تجاربهم الرهيبة، آملين في أن كل محاولة للتعبير هي محاولة للبقاء. في المقدمة يكتب حوامدة: "هذا الكتاب برهافة كلماته صيغ بأصابع الطيبين في غزّة، بدموع المكلومين وحزن الأمهات والآباء على من فقدوا، بحزن الجيران على جيرتهم، بحزن الملكوت على بيوت الهناء التي دُمّرت وعلى أحياء المحبة التي دُكّت من أساساتها، بحزن الصبايا على أيام ما قبل الإبادة. هذه الحياة الصعبة في ظل الحصار والتجويع والمنع والقهر وحملة التطهير العرقي والإبادة ومسح معالم الحياة حتى لا تعود المنطقة صالحة للعيش".
تمثل هذه الشهادات وثائق ثمينة لمن يريد استيعاب التجربة القاسية التي ما زال يعيشها سكان قطاع غزّة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وهو أكبر سجن مفتوح في العالم، منذ عقدين على الأقل.
نحن مقتنعون بأن تحرير هذه الترجمة في أسرع وقت ممكن قد يساعد الإخوة الفلسطينيين على تحقيق حلمهم المشروع بتحرير إنسانيتهم والمطالبة بـ"وقف الهمجية، وقف الوحش الذي لا يريد أن يعترف بحق هذا الشعب في بلاده وشمس بلاده"، على حد قول موسى حوامدة.
المفاهيم الأساسية
ولتقديم فكرة موجزة عن المواضيع التي تتناولها الشهادات، شرعت في تحليل كمّي لورود بعض الكلمات المفتاحية والتي يمكن تصنيفها إلى مجموعتين: الأشياء الملموسة والأشياء المجردة. تبدو النتائج متوقعة إلى حد ما، لكن استخدامها ودمجها غالبًا ما يندرجان في خانة الفكر الذي يعبّر عنها "أدب العبث". إنها تتحدث عن الشعور بالاغتراب والألم والوحدة والاستحالة لأي اتصال مع خارج غزّة. هذا الألم الذي يقلب العقل ويجعلنا نفقد أيّة صلة مع الواقع.
في المجموعة الأُولى، أبرز الكلمات هي التالية، بترتيب تنازلي: (البيت): 197، (الحرب): 180، (القلب): 121، (الخيمة): 66، (البحر): 61، (الجسد): 59، (القصف): 48، (الشجرة): 38، (الشهيد): 30، (الحمار): 28، (الدموع): 26، (الجثة): 23.
من بين الكلمات المجردة الأكثر استعمالاً هناك (الموت): 140، (الفقد): 82، (الحياة): 80، (الحزن): 63، (الحلم): 51، (الوجع): 34، (الخوف): 32، (الصبر): 30، (الذكريات): 28، (النجاة): 26.
بين اللاحياة والموت
كتب محمود درويش أن فلسطين هي بلاد الكلمات. فعلًا، فقد كان الأدب وما زال وسيلة لمعالجة الصدمات والتأكيد على أن هوية الفلسطينيين لا تعتمد على مكان الولادة. فأين هو الوطن؟
"عشرون عامًا أنتظرُ وطنًا يلمّنا نحوه، نعيشُ لأجله، نحلمُ لأجله، نكبرُ لأجله، نضحكُ لأجله" (58). لكن لدى آخرين شعور قوي بخيبة الأمل بشأن مفهوم الوطن: "من الغباء أن أدافع عن وطن لا أملك فيه بيتًا، من الغباء أن أضحّي بنفسي ليعيش أطفالي من بعدي مشرّدين، ومن العار أن أترك زوجتي فريسة للكلاب من بعدي. الوطن حيث تتوفر مقومات الحياة لا مسببات الموت! (...). لا أؤمن بالموت من أجل الوطن؛ الوطن لا يخسر أبدًا، نحن الخاسرون. عندما يُبتلى الوطن بالحرب ينادون الفقراء ليدافعوا عنه، وعندما تنتهي الحرب ينادون المسؤولين ليتقاسموا الغنائم" (67).
قصائد ويوميات وتأملات واعترافات كتبها غزيون خلال الإبادة
يعيش المواطن في قطاع غزّة، بعد تهجيره عدة مرات من منزله أو من خيامه العشوائية، منذ أكثر من 13 شهرًا معلّقًا بين ما يشبه الحياة والموت، في محاولة النجاة من الأخير والعثور على معنى للكارثة، فكثيرًا ما يتساءل: "ماذا جنينا لنعيشَ هذا التعب كلّه؟" (41).
كما يدرك العزلة والخيانة الدولية: "العالمُ كله على صعيدٍ واحد ينتظر صمتك أو موتك، لا خيارات لك ولا هامش" (65). وحتى البحر الذي يُعتبر أفق الخلاص الوحيد مغلق من قبل قوات الاحتلال التي تحاصره: "البحر من أمامك والموت من خلفك ومن فوقك ومن تحت وعلى جانبيك، أنَّى اتجهت ثمة موت!" (65). يتعامل أحد مع الموت كما يتعامل مع أي شخص: "لماذا فعلت كل هذا بها يا موت؟ ثبورًا لك يا موت!" (31).
ويدرك الفلسطينيون أنهم يشاركون كممثلين في فيلم رعب فيه "دم حقيقي وليس صبغة". الموت حقيقي أيضًا، وكل المشاهد ليست "خدعة بصرية" (55).
ترغب إحدى المدرّسات بمنح درجة ممتازة لطلّاب علم الأحياء لأنهم يعرفون كيفية إعادة تركيب عظام الجثث بشكل أفضل من أي شخص آخر (66). صارت ثلاجات الآيس كريم مستودعًا للجثث لأن ليس هناك مكان آخر في المستشفيات المقصوفة.
يُقال إن الإنسان يعتاد بسرعة على مشهد الدم، وغالبًا ما يحدث نوع من اللامبالاة، وهو ليس أكثر من محاولة لحماية النفس من الجنون. بالنسبة لأولئك الذين لا يزال لديهم أدنى أمل في الرجوع لمنزلهم أو الآثار المتبقية منها، يبقى الشك الفظيع بعدم قدرتهم على التعرف إليها، وأيضًا إلى الشارع أو الحي: "حياتنا أصبحت عبارة عن كومة أحجار/ أحلامنا باتت على الطرقات/ مستقبلنا دُفن تحت الركام" (20).
هناك من يشعر، بعد تجربة النجاة من الموت، بولادة جديدة: "تخيَّل وإنت بدك تنام ع مخدتك بأمان الله، ضوَّت الدِّنيا فجأة، وصِرتْ بزاوية الحيط وجبال حجار حواليك وما في أي صوت نهائيًا، يعني صرت بقبر صغير، ومش قادر تتحرك والحجارة محصراك من كل الجوانب، وصرت تستنّى الملائكة على شان تتحاسب، آه والله العظيم هالشعور حسيته مبارح. فجأة حسيت ع حالي وأنا بحكي: 'أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله' أكتر من مرة، بلَّشْتْ أوعى ع حالي إنه لسّه ما متت، معقول لسّه عايشة؟" (78).
ويعتقد آخر أنه عاش حلماً طويلاً دام 43 عاماً، امتلك فيه منزلًا ووظيفة ومستقبلًا باهرًا: "صحوت من الحلم مرتين أو ثلاثًا في السنوات 2010 و2012 و2014. كانت صحوات خفيفة أعود بعدها للنوم واستكمال الحلم حتى استيقظت في السابع من أكتوبر ولم أعد للنوم بعدها" (80).
هناك شعور عميق بالحنين إلى المنزل المدمر، والأسرة والأصدقاء والأقارب المفقودين: "قد أصبح أحدنا كومة اضطرابات نفسية على هيئة إنسان" (3). تتجسد حالة التشظي النفسي والهذيان في الاعتراف التالي: "رأيت قتلى المدينة يسيرون بجانبي يبحثون عن بقاياهم، وأنا بكل أطرافي التي ما زالت على جسدي أبحث عني فلا أجدني سوى جثة هامدة (...)، أنا وجسدي منفصلان وإن كنّا نسير معًا!" (117).
الدين، الوطن، الخيبات
يشعر مواطن غزّة بأنه في مهب العاصفة التي اقتلعته فجأة: "في غ/ز/ة، أنت لم تكن ملك نفسك، لم تقرر يومًا من تكون، (...)، فهناك من يقرر كيف ومتى تكون الحياة والممات (…). السياسيون لا يُشبعون غرائزهم بدم الأطفال ولا النساء ولا الشيوخ" (89).
وهناك أيضًا من يشكك في إيمانه: "هل أخبرك 'دينك' أن الله متعطش لدمائنا ورضاه مرتبط بقتلنا. أيّ إله أنت تعبد يا رجل؟"(92).
لم تعد هناك طاقة للتعبير عن الحزن. يتفاجأ البعض، بل ويشعرون بالخجل. إذا لم تعد للذاكرة مساحة، فيطلبون من الحرب أن تمنح فرصة، لعناق الأم والأب للمرة الأولى والأخيرة، حتى "أعيش ليلة حب واحدة في عمري" (101)، وأيضًا "هذا الحزن أكبر من نهيق حميرنا، وأكبر من خيالاتنا، أمنياتنا ببلادٍ من الكتب والألوان واللوحات" (99) و"من أين سيأتي الناس بقلوب تتسع" له؟ (48).
وهناك أبطال عديدون مثل زاهر (100) الذي يدفن شقيقه ويعود إلى عمله وكأن شيئاً لم يكن. ومع ذلك فإن أهل غزّة ليسوا ملائكة ولا شياطين، بل أناس عاديون، ولا شك أن الحرب جعلت الجميع أكثر قسوة (95).
وتحظى الحمير بتنويه خاص وشكر لأنها تنقل الجرحى والجثث. إنها الوسيلة الوحيدة لنقل البضائع الثقيلة ولا تطلب أي شيء مقابل خدماتها: "المجد للحمار" (13). لكن هناك ناس بلا قلب يرفضون تقديم الماء لها بسبب العطش الذي يصيب الجميع.
تهدف ترجمة الكتاب إلى نقل الشهادات خارج حدود العالم العربي
الموضوع الذي يتكرر في العديد من الشهادات هو استحالة إيصال ما يختبره الغزيون للآخرين. اللغة عاجزة عن التعبير ووصف الأحداث، فتفقد الكلمات معناها ولا تستطيع ترجمة القهر. في هذا الجو من الخراب واليأس، يصدر صوت نادر من الأمل والتفاؤل من هذه الترنيمة المهيبة للحياة، وهو ما يعطي المجموعة بأكملها عنوانها: "لي يدان لأكتب، لأعانق، لألوّح مع أغاني الست وأشرب الشاي، لأحقق حلمي بقيادة سيارة؛ لا لأرفع الحجارة وأبحث عمَّن تبقى من أهلي وأشيائي. (...) لي عينان لأراقب بهما العشاق، ونموَّ شجرتي التي زرعتها في حوش الدار؛ لا لأرى أشلاء متناثرة وكبدًا ينبض" (49).
لقد وصلنا إلى 30 حزيران/ يونيو 2024، مع إدراكنا أن غالبية سكان غزّة قد لا يجدون القوة أو الوسيلة لنشر رسائلهم وتأملاتهم على نطاق واسع. وربما حتى الصيف الماضي، كان الكثير منهم يتمسكون بالأمل في إنهاء الهجوم، وإبرام اتفاق هدنة، ولو مؤقتة.
كيف ستتطور أفكار الغزيين حول مصيرهم المعلق دائمًا بخيط رفيع، في أشد شهور السنة حرارة واختناقًا، دون طعام أو مأوى، وتحت القنابل الإسرائيلية الفتاكة والعشوائية؟
أختتم هذا المقال بقصة حقيقية حدثت لي خلال فترة تنسيق المترجمين. سألني زميل وزميلة طلبت منهما المساهمة في ترجمة الشهادات إذا كانت هناك مكافأة ما.
صدمني السؤال قليلًا، فأجبتهما مقلّبًا الأمر رأسًا على عقب: "أكيد أنّ مؤلفي هذه الشهادات لن يطلبوا أي مكافأة لشهاداتهم، بالعكس يجب أن نشكرهم ونكافئهم لأنهم أتاحوا لنا آخر فرصة للتعبير عمّا تبقّى من إنسانيتنا".
بطاقة
Aldo Nicosia باحث وكاتب ومترجم من مواليد صقلية عام 1968، يدرّس اللغة العربية وآدابها في "جامعة باري" منذ 2013. من كتبه: "السينما العربية" (2007)، و"الرواية العربية في السينما" (2014)، و"بدايات: أنطولوجيا للرواية العربية 2011 - 2023" (2024). نشر مقالات عديدة عن الأدب العربي المعاصر وعلم الترجمة واللهجات. من ترجماته رواية "ليل ونهار" لسلوى بكر (2018) و"كشري: حكايات عربية ومالطية" (بالاشتراك،2021).
إقرأ المزيد