أصدقاء لغتنا: مع إبراهيم بادشاه
العربي الجديد -

تقف هذه الزاوية عند مترجمي الأدب العربي إلى اللغات العالمية المختلفة، ما هي شواغلهم وأسئلتهم وحكاية صداقتهم مع اللغة العربية؟ "في غياب الترجمات من اللغة العربية، سيقتصر فهم العالم للعرب على السرديات الغربية، التي، وكما نعلم، تُصرّ على تقديم صورة مشوّهة ومغلوطة عنهم"، يقول المترجم الهندي في حديثه إلى "العربي الجديد".


■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة ولبنان؟

- من منظور إنساني بحت، فإن مشاهد المعاناة في غزة ولبنان تُسبب ألماً شديداً. ولكن، بالنسبة لشخص يشعر بارتباط شخصي بالضحايا، فإن الأمر يتجاوز انفطار القلب. تربطني بفلسطين ولبنان علاقة روحية عميقة. في كيرلا، نتعلَّم عن الاستعمار الاستيطاني في فلسطين في الصف الثامن، ولطالما كان التعاطف مع الشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت الاحتلال لعقود محوراً أساسياً لنشاطي السياسي. لقد ركَّزت أجزاء كبيرة من أبحاثي الأكاديمية على الأدب الفلسطيني، بصفته وسيلة لاستكشاف طرق بديلة لمناقشة فلسطين.
أما علاقتي بلبنان، فهي أكثر خصوصية وعمقاً، حيث كانت بيروت أول مدينة عربية أزورها و"أُحبّها" منذ اللحظة الأولى. الصيف الذي قضيته هناك لدراسة اللهجة اللبنانية في "الجامعة الأميركية" ببيروت كان بلا شك أفضل صيف في حياتي. لديّ الآن أصدقاء وعائلة يعيشون في جميع أنحاء لبنان. كانت زيارة بيروت حلماً لطالما راودني، خصوصاً لكونها استضافت بعض كتّابي المفضلين مثل غسان كنفاني وفايز أحمد فايز. كما أن شغفي بجبران خليل جبران دفعني إلى رحلة فردية إلى بشرّي، مسقط رأسه، حيث وجدت نفسي عالقاً بعد أن فاتني الباص، وقضيت الليل لدى عائلة. شعرت بارتباط غريب مع البلد كلما زرته؛ شعرت وكأنني في موطني. في الوقت ذاته، زاد ذلك من يأسي وقلقي عندما رأيت أعداء الإنسانية يقصفون هذه الأماكن، التي تبقى ذكرياتها مشرقة وممتعة في عينيّ وصوري.
مع ذلك، يبقى هناك شعاع من الأمل، حتى في أحلك الأوقات. السنوات الأخيرة عرّت نفاق الغرب والمعايير المزدوجة، وجعلت الجنوب العالمي أكثر وعياً لخطر الإمبريالية الأميركية من أي وقت مضى. هذا التحول مصدر تفاؤلي الأساسي، إذ يلمح إلى إمكانية تراجع الإمبراطورية الأميركية. ربما أكون واهماً، لكن هذا التفاؤل ضروري لبقائي. في مقابلة له قبل خمسة وعشرين عاماً، تنبّأ إقبال أحمد بمستقبل "إسرائيل" في قوله: "على المدى القصير، يبدو مشرقاً وقوياً، أمّا على المدى الطويل، فمظلم للغاية". أعتقد أن مرحلة "المدى الطويل" باتت وشيكة، رغم أنني أشاطر إقبال أحمد مخاوفه من أهوال الأحداث التي ستسبق تلك اللحظة.


■ متى وكيف بدأت علاقتك باللغة العربية؟

- قد يكون مفاجئاً أن أقول إن العربية كانت أول أبجدية تعلّمت قراءتها وكتابتها، قبل أبجدية لغتي الأم، المالايالامية، أو لغتَي الهند الرسميتين، الهندية والإنكليزية، وقبل بقية اللغات الـ 22 المُعترف بها في الهند. كان والدي الذي عمل مدرِّساً في مدرسة محلّية إسلامية، هو من علَّمني الحروف قبل أن أبدأ تعليمي النظامي. في كيرلا، التعليم في المدرسة الإسلامية منهجي ومنظم، حيث يذهب الأطفال الذين تراوح أعمارهم بين الخامسة والخامسة عشرة إلى المدرسة المحلّية لمدة ساعة يومياً لتلقّي دروس في الإسلام واللغة العربية. هناك بدأت تدريبي الرسمي الأول على اللغة العربية. لاحقاً، التحقت بكلية الشيخ أبوبكر للآداب والعلوم الإسلامية التابعة لتنسيق الكليات الإسلامية، واصلت فيها تدريبي في الدراسات الإسلامية واللغة العربية. ونظراً إلى شغفي المبكر بالأدب، لم يكن مفاجئاً أن أُفتن بالأدب العربي خلال دراستي الجامعية، حيث انفتح لي باب جديد على ثراء التقاليد الأدبية العربية، بدءاً بالشعر الكلاسيكي، ثم الشعر والنثر الأدبي المعاصرين. تخرجت بدرجة ماجستير في اللغة العربية وآدابها وحصلت على لقب "الوافي".


■ ما أول كتاب ترجمتَه وكيف جرى تلقّيه؟

- كنت أترجم بدافع المتعة خلال سنوات دراستي الجامعية. كانت الترجمة نشاطاً أمارسه لفهم أسرار النصوص. غالباً ما وجدت نفسي أترجم الشعر من العربية إلى المالايالامية على قصاصات ورق، وأنا الآن أندم على عدم الاحتفاظ بتلك القصاصات، رغم أنني متأكد من أنها ليست جديرة بالنشر. أول ترجمة لي ذات قيمة كانت لقصة قصيرة لتوفيق الحكيم بعنوان "ليلة الزفاف"، كانت جزءاً من منهجنا الدراسي (نشرتها بعد خمس أو ست سنوات). أول ترجمة لي على مستوى كتاب كامل كانت رواية "ساق البامبو" لسعود السنعوسي. بدأت هذا المشروع بوصفه جزءاً من أطروحتي للماجستير. ونظراً إلى أن قسمنا كان يركز على الترجمة، سُمح لنا أن نقوم بمشاريع ترجمة باعتبارها أطروحات.
في ذلك الوقت، لم أكن واثقاً بمهاراتي البحثية، وربما كنت أكثر ثقة بقدرتي على الترجمة إلى المالايالامية، لذلك قررت اختيار مشروع ترجمة. خلال تلك الفترة، قرأت رواية السنعوسي، التي فازت بـ"الجائزة العالمية للرواية العربية". تلك الرواية، بالموضوعات التي تتناولها حول الهجرة العمالية إلى الخليج وأزمة الهوية، من بين قضايا معاصرة أُخرى، دفعتني إلى مشاركتها مع أبناء بلدي، خصوصاً بالنظر إلى أهمية ثقافة الهجرة في كيرلا. عندما قررت ترجمة الكتاب، كان السنعوسي كريماً جداً وسمح لي بذلك، رغم أنني لم أكن مترجماً معروفاً. بصراحة، كانت الرواية طويلة جداً واستغرقني إتمام المسوَّدة حتى نهاية عام 2016. مع ذلك، تأخر نشر الكتاب حتى عام 2022 بسبب مفاوضات على حقوق النشر. لذلك كان أول إصدار لي مترجم من العربية هو رواية جوخة الحارثي "سيدات القمر"، التي صدرت في كانون الثاني/ يناير 2020، بعد أن فازت بـ"جائزة مان بوكر الدولية". حضرت الحارثي إلى كيرلا وشاركت في حفل إطلاق الكتاب، وكان ذلك من اللحظات التي لا تُنسى في حياتي.

كانت العربية أوّل أبجدية تعلمتها، حتى قبل لغتي الأُمّ

■ ما آخر إصداراتك المترجمة من العربية وما هو إصدارك القادم؟

- أحدثُ كتاب ترجمته من العربية هو رواية "نارنجة" لجوخة الحارثي. منذ انتقالي إلى الولايات المتحدة للحصول على درجة الدكتوراه، أصبحت أجد وقتاً أقل لترجمة الكتب الكاملة، واتجهت إلى ترجمة القصص القصيرة أكثر فأكثر. خلال هذه الفترة، ترجمت عدداً من القصص القصيرة لكاتبات مثل رشا عباس، وإستيلا قايتانو، ونجوى بن شتوان، وغيرهن. مؤخراً، أعمل على مجموعة شعرية لنجوان درويش. ستكون هذه المجموعة خروجاً عن سلسلة طويلة من الترجمات النثرية، وإيذاناً بدخولي عالم ترجمة الشعر، رغم أن الشعر طالما كان مُنطَلقي وربما أكثر شيء أستمتع به. وبالرغم من أن نجوان درويش قد أصبح اسماً عربياً معاصراً محبوباً ومعروفاً بين قرّاء وقارئات المالايالامية، وبالتالي ترجمة مجموعة شعرية كاملة له أمرٌ مطلوب منذ فترة طويلة، إلا أن  الأمر قد تأخر، وهو ما سيصبح حقيقة قريباً. 


■ ما العقبات التي تواجهك مترجماً من اللغة العربية؟

- عندما بدأت الترجمة، واجهت العديد من التحديات المتعلقة باللهجات. ونظراً إلى أن تدريبي اقتصر على العربية الفصحى، وجدت صعوبة في فهم الحوارات والتعابير المستخدمة في اللهجات الإقليمية. اعتمدت استراتيجيتي إما على الاستفسار من المؤلفين والمؤلفات مباشرة أو الاستعانة بشخص يتحدث اللهجة للحصول على تفسير، إذ نادراً ما تتوفر معاني التعابير العامية في القواميس. ولطالما تمنيت لو توفرت موارد أكثر شمولاً حول اللهجات الإقليمية. أما العقبة الأُخرى فتتعلق بشكل أكبر بالترجمة إلى المالايالامية مقارنة بالترجمة عن العربية، ولا ترتبط مباشرة بالجوانب التقنية للترجمة. فالترجمة إلى المالايالامية تعاني نقصاً في الزمالات والتعويضات المناسبة. ومعظم المترجمين والمترجمات الذين أعرفهم يعملون على ترجمة الأدب العربي إلى المالايالامية بدافع شغفهم والتزامهم باللغة والأدب، بينما يعتمدون على وظائف أخرى لتأمين معيشتهم. ونظراً إلى صغر حجم صناعة النشر، غالباً ما تفتقر دور النشر إلى القدرة أو الرغبة في تقديم تعويض عادل للمترجمين والمترجمات. بالإضافة إلى ذلك، تُسهم القيود المرتبطة بحقوق النشر في خلق بيئة غير مشجعة لازدهار الترجمة. نتيجة لهذه العوامل، لا تُترجم معظم الأعمال الأدبية العربية المعاصرة إلى المالايالامية، إلا في حال فوزها بجوائز دولية.


■ نلاحظ أن الاهتمام يقتصر على ترجمة الأدب العربي وفق نظرة واهتمام معينين، ولا يشمل الفكر وبقية الإنتاج المعرفي العربي، كيف تنظر إلى هذا الأمر وما هو السبيل لتجاوز هذه الحالة؟

- أعتقد أن هذا هو الحال مع معظم لغات الجنوب العالمي. غالباً ما يُنظر إليها على أنها قادرة فقط على إنتاج المواد الخام أو المصادر الأولية. في المقابل، تُعتبر اللغات الأوروبية هي القادرة على إنتاج النظريات والفلسفة، نظراً إلى استمرار هيمنة الفكر الأوروبي في العالم الحديث. هناك عدد قليل جداً من المنظّرين والمنظَّرات من الجنوب الذين تُترجم أعمالهم إلى لغات أُخرى. ربما يشكِّل المفكرون الدينيون والفقهاء استثناءً، إذ يحظون ببعض الاهتمام في الأوساط الدينية. قد يكون هذا أحد المجالات التي يمكن للغة العربية أن تدّعي فيها تمثيلاً عادلاً نسبياً في مجال الترجمة. أعتقد أنه ينبغي أن تكون هناك جهود منسقة للترويج للفلسفة والنظرية القادمة من الجنوب العالمي إلى العالم الخارجي.

مترجمو الأدب العربي إلى المالايالامية يدفعهم الالتزام والشغف
 

■ هل هناك تعاون بينك وبين مؤسسات في العالم العربي أو بين أفراد وما شكل التعاون الذي تتطلع إليه؟

- حتى الآن، لم أتعاون مع أي مؤسسة أو أفراد خارج نطاق التعاون بين الكاتب والمترجم. كما ذكرت في إحدى إجاباتي السابقة، ما زلت أعتبر نفسي غريباً عن الثقافة العربية. تجربتي الوحيدة مع الثقافة العربية - بخلاف الصيف الذي قضيته في لبنان - كانت من خلال الإنتاج الأدبي والثقافي القادم من العالم العربي. آمل أن أتمكن من قضاء المزيد من الوقت في الدول العربية للانغماس في اللغة والثقافة العربيتَين وترجمة المزيد من الأعمال.


■ ما هي المزايا الأساسية للأدب العربي ولماذا من المهم أن يصل إلى العالم؟

- لست خبيراً بما يكفي لتقديم ادعاءات شاملة حول مجمل الأدب العربي. ومع ذلك، يمكنني أن أوضح ما جذبني إلى الأدب العربي ولماذا بدأت وأواصل الترجمة منه. يتميّز الأدب العربي بتقاليد أدبية راسخة استمرت على مدى آلاف السنين ولا تزال نابضة بالحياة. بطريقة فريدة وخاصة، تجعل اللغة العربية أي تعبير أدبي جميلاً، بحيث يحتفظ بجماله حتى عند ترجمته. وبفضل نشأته في اللغة العربية، يكتسب النص جمالاً خالداً.
هذا من ناحية الأسلوب. أما من حيث المحتوى، فأجد أن الأعمال التي تنبع من الجنوب العالمي تحمل قيمة أكبر مقارنة بما يُنتج في الشمال العالمي، بسبب تاريخنا المشترك مع الاستعمار. وكما تم تمثيل الثقافة والأدب العربيين بشكل مشوَّه في الخطابات الأوروبية، تعرض جنوب آسيا أيضاً للتشويه ذاته. وللأسف، نظراً إلى استمرار هيمنة اللغات الأوروبية، خاصة الإنكليزية، ما تزال هذه الأفكار المشوّهة تُعزى إلى الجنوب العالمي.
أعتقد أن ترجمة الأدب العربي تفتح آفاقاً جديدة لفهم الثقافة العربية من قرب. بعد ترجمتي لروايتي جوخة الحارثي، تلقيت ردوداً من قرّاء وقارئات في كيرلا قالوا إنهم لم يتصوّروا أن هناك كاتبات عربيات يكتبن روايات بهذا المستوى، ولم يتخيلوا وجود شخصيات نسائية قوية بهذا الشكل في الأدب العربي. هذه الترجمات تُفكك السرديات الكبرى التي تصور النساء العربيات ضحايا دائماتٍ يعشن تحت ظروف قاسية. وفي الوقت ذاته، تسهم في بناء جسور من التضامن والتعاطف. عندما يقرأ القراء هذه النصوص، يجدون أنفسهم مرتبطين بحياة العرب وتجاربهم. في غياب مثل هذه الترجمات، سيقتصر فهم العرب على السرديّات الغربية، التي كما نعلم، تُصر على تصوير العرب جماعاتٍ إرهابيةً أو عنيفة ومتعطشة للدماء.


بطاقة

Ibrahim Badshah مُترجم هندي من مواليد كيرلا عام 1993. يعمل مترجماً بين العربية والمالايالامية والإنكليزية، وهو مرشّح لنيل درجة الدكتوراه في قسم اللغة الإنكليزية بـ"جامعة هيوستن" الأميركية؛ حيث يعمل في تقاطع دراسات الترجمة، ودراسات ما بعد الاستعمار، والأدب العالمي. باستخدام ممارسات الترجمة في الجنوب العالمي، خاصّةً بين العربية والمالايالامية، كنماذج، يدرس إبراهيم بادشاه أنماط المقاومة والنشاط التي تتجلّى فيها.
ترجم سبعة كتب وعدداً من القصص القصيرة والقصائد من العربية والإنكليزية. وتشمل أعماله ثلاث روايات مترجمة من العربية؛ هي: "سيّدات القمر" و"نارنجة" للكاتبة العُمانية جوخة الحارثي (صدرت الترجمتان في 2020)، و"ساق البامبو" (2022) للكاتب الكويتي سعود السنعوسي. إلى جانب عمله الأكاديمي والأدبي، يهوى بادشاه التصوير الفوتوغرافي.



إقرأ المزيد