العربي الجديد - 1/20/2025 7:35:05 AM - GMT (+3 )
صورة رايكو جوريتش على غلاف كتابه "تاريخ الأدب الغجري"
تمرّ في هذه السنة الذكرى الخامسة لرحيل الكاتب والأكاديمي الغجري الصربي رايكو جوريتش Rajko Djurić الذي وُلد في عائلة غجرية مهمّشة بقرية قرب مدينة سمدرفو Smederovo في شرق صربيا، ولم يتوقع له أحد أن يصبح لاحقاً وراء انقلاب كبير في حياة الغجر في يوغسلافيا والبلقان وأوروبا، يعيد الاعتبار لاسمهم وتاريخهم وثقافتهم.
عايش جوريتش (1947 - 2020) في طفولته تنقُّل وتهميش الغجر، ولكنّه صمّم على أن يسير في درب آخر، وذلك بمتابعة تعليمه في المدرسة وإكمال دراسته الجامعية وجعلهم موضوعاً لرسالته للدكتوراه، واهتمامه بتقعيد اللغة الغجرية وجعلها لغة مكتوبة، ونشره مجموعاته الشعرية بها، وكذلك للكتب المدرسية التي أتاحت المجال للجيل الأول من الغجر في يوغسلافيا السابقة أن يتعلموا لغتهم وبلغتهم، وأن يعيد الاعتبار لهم ولتاريخهم وثقافتهم على المستوى الأوروبي بفضل المؤلفات العديدة التي نشرها وتُرجمت إلى عدة لغات.
وكان الغجر قد تدفقوا قبل أكثر من ألف عام من موطنهم الأصلي في الهند عبر بلاد فارس؛ حيث استقر قسم منهم في العراق وبلاد الشام ومصر، وتابع قسم آخر منهم إلى آسيا الصغرى والبلقان ومنها إلى وسط وغرب أوروبا، حيث تجاوز عددهم عدة ملايين. وكان معظم هؤلاء يتمركزون في بلغاريا ورومانيا ويوغسلافيا السابقة التي وُلد فيها جوريتش، وكانت وحدها تجمع حوالي نصف مليون غجري.
من الشيطنة إلى الحقوق الإثنية والثقافية
ولكن نمط عيش الغجر (الترحال) وازدراء المجتمعات المحيطة بهم وشيطنتهم بسبب الأساطير التي أحاطت بقدومهم، حتى إن الأطفال كانوا يخوَّفون بهم، جعل الطفل رايكو جوريتش ينشأ ويصمم على أن يتابع تعليمه، وأن يدرس الفلسفة وعلم الاجتماع في "جامعة بلغراد" بين 1967 و1972.
وخلال تلك السنوات الذهبية ليوغسلافيا التيتوية، أتاح له الانفتاح الثقافي أن يكتشف موهبته الشعرية وهويته الغجرية بعد أن تواصل مع مثقفين آخرين في أوروبا، فعمل على ترويج الكتابة والنشر باللغة الغجرية، وحتى أن ينشر أولى مجموعاته الشعرية بها عام 1969 بعنوان "غجري يبحث عن مكان له في الشمس". ومن أشهر قصائده التي تُرجمت قصيدة "دون وطن ودون قبر"، التي أصبحت عنواناً للمختارات التي صدرت بالألمانية بمقدمة للكاتب المعروف فاتسلاف هافل.
اهتمّ بتقعيد اللغة الغجرية وجعلها مكتوبةً ونشَر أشعاره بها
وفي السنوات اللاحقة، برز اسمه على مستوى يوغسلافيا باللغة الصربوكرواتية، حتى إنه أصبح رئيس القسم الثقافي للجريدة البلغرادية العريقة "بوليتيكا"، ونشر في 1987 كتابه "هجرة الغجر: دورات المعاناة وحلقات السعادة"، ثم ناقش رسالته للدكتوراه في 1988 "ثقافة الغجر في جمهورية يوغسلافيا الفيدرالية الاشتراكية"، ليتحول بعدها إلى التدريس في الجامعة أيضاً. وعلى الصعيد الغجري، نشط في وضع كتب مدرسية بالأبجدية الغجرية الجديدة ليضمن تعليماً للأطفال الغجر حتى الصف الرابع، كما تواصل مع المثقفين الغجر في أوروبا وأصبح في 1981 سكرتيراً عاماً لـ"الاتحاد العالمي للغجر"، ثم رئيساً له في 1990.
كانت تلك سنة صعبة لرايكو جوريتش والغجر في يوغسلافيا مع صعود سلوبودان ميلوشيفيتش إلى السلطة في صربيا وتوتر العلاقات بين جمهوريات يوغسلافيا، ما أصبح يُنذر بانهيار يوغسلافيا الذي سيكون ضحيته الغجر أيضاً. وفي تلك السنة، جاءه الأمر للالتحاق بالجيش في صربيا، فرفض أن يكون مشاركاً في هذه الحرب المدمرة، وآثر أن يلجأ إلى ألمانيا بمساعدة من الكاتب غونتر غراس وغيره، حيث التحق بـ"جامعة برلين الحرة" أستاذاً لتاريخ وثقافة الغجر.
بعد اعتقال وتسليم ميلوشوفيتش إلى محكمة جنايات الحرب في لاهاي عام 2003، عاد جوريتش إلى بلغراد لينشط من جديد ثقافياً وسياسياً في سبيل قضية الغجر، فشارك في 2006 في تأسيس ورئاسة حزب غجري جديد (اتحاد غجر صربيا) الذي خاض معه الانتخابات البرلمانية في 2007 وفاز لأول مرة بمقعد للغجر في البرلمان الصربي، ودعم فوز المرشح الصربي بوريس تاديتش في الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها عام 2008.
ضحايا الهولوكست المنسي
كانت تلك السنوات الذهبية لرايكو جوريتش على الصعيد الثقافي والأكاديمي والسياسي في سبيل قضيته الرئيسية: إعادة الاعتبار للغجر في صربيا (حوالي نصف مليون آنذاك) ليخرجوا من التهميش في المجتمع إلى الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية باعتبارهم المكوّن الثالث في البلاد بعد الصرب والمجر.
وفي هذا السياق، قام جوريتش بدوره في إعادة الاعتبار للغجر كونهم ضحايا منسيين للهولوكست في ألمانيا النازية، بعد أن كان هذا المفهوم يقتصر على اليهود فقط، فنشر عام 2010 كتاب "تاريخ هولوكست الغجر" بالتعاون مع زميله أنطون ميلتيتش، الذي كشف عن المأساة التي لحقت بالغجر في معسكرات الاعتقال والموت بالغاز وتأخر ألمانيا في الاعتراف بذلك وما يترتب عليه.
أعاد الاعتبار للغجر بوصفهم ضحايا منسيّين للهولوكست النازي
عاش جوريتش سنواته اللاحقة في نشاط متواصل؛ حيث نشر عشرات الكتب التي تُرجمت إلى عدة لغات أوروبية، جعلت منه مرجعاً في هذا التحول الذي جرى لوضع الغجر في أوروبا من جماعات منبوذة إلى أقليات إثنية تحظى بالاعتراف وحقوقها الثقافية والقومية. وفي هذا السياق، قام جوريتش عام 2011 بتأسيس "الأكاديمية الغجرية للعلوم والفنون" في بلغراد التي انتخب رئيساً لها حتى وفاته في 2020.
في 1987، عندما نُشرت الطبعة الأولى في بلغراد لكتابه "هجرة الغجر"، حصلتُ عليه بسرعة وقرأته ثم كتبتُ عنه عرضاً نُشر في مجلة "العربي" الكويتية في عدد آذار/ مارس 1989، بعد أن بدأتُ الاهتمام بالغجر بحكم مجاورتي لمحلّتهم في العاصمة الكوسوفية بريشتينا، وترجمتُ الكتاب الذي أعدّه الكاتب الغجري الكوسوفي علي كراسنيتشي بعنوان "قصص شعبية غجرية" الذي نشرته وزارة الثقافة السورية في 1989.
أرسلتُ إلى جوريتش العرض المنشور لكتابه في مجلة "العربي"، فسُرّ به كثيراً وسألني عن الغجر في بلاد الشام بعدما عرف أني أكتب عنهم بحثاً بعنوان "طريق الحرير طريق الغجر بين الشعوب - نموذج حلب في العصر العثماني"، والذي نُشر لاحقاً في مجلة "دراسات تاريخية" عام 1991. وللأسف، جاءت حروب يوغسلافيا آنذاك بمآس جديدة شملت أيضاً الغجر الذين أصبحوا أقليات صغيرة في الدول السبع التي انبثقت عن تفكّك يوغسلافيا.
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن جوريتش كان حريصاً على إعادة الاعتبار للاسم الأصلي للغجر: الروما Roma وجعل النسبة له للغة والثقافة (لغة وثقافة الروما)، ولكن هذا الاسم لم يشع في العربية، ولذلك أبقينا على الاسم الشائع هنا مع ضرورة التوضيح والتغيير.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري
إقرأ المزيد