في تونس وجدتُ فلسطين
العربي الجديد -

من تظاهرة داعمة للحقّ الفلسطيني في تونس العاصمة، 27 أيار/ مايو 2024 (Getty)

تجوّلتُ في أزقّة مدينة تونس العتيقة كما كنتُ أفعل منذ ثلاثين سنة، مستذكراً بايات تونس وعلماءها الذين كانوا يعبرون هذه الأحياء الضيّقة ويستنشقون روائح البخور والعطور المنبعثة من أمام الحوانيت الصغيرة. تذكّرتُ أيضاً ملامح الأهالي من عموم الشعب، الذين كانوا يرتادون هذه الأسواق، يزدحمون في ثناياها الصغيرة محمَّلين بقفاف من سعف النخيل، وهُم يعتمرون الشواشي الحُمر بخيوطها السوداء. العمائم البِيض لأهل اليسار والوجاهة.

"روائح المدينة" طيّبةٌ، أستاذي حسين الواد، تضوعُ أريجاً من هذه الدروب حاملة ذكريات مَن مرّوا بقصصهم وأحلامهم، بأهازيجهم الدينية وغنائهم الغزَلي. وفي طرف الأسواق الشمالي، ينتصب جامع الزيتونة قلعةً وازنة، تحيط بها الحوانيت والمقاهي في وحدة طبيعية بين نداء السماء وقيود الأرض، بين قداسة الفقه وحيل التجارة. لا حدود تفصل بينها إلّا جدران تنفتح فيها أبواب من كلّ الجهات، فينفذ إليها التجّار والحرفاء كلّما استمعوا إلى صوت الأذان الشجيّ يدوّي في ذلك الفضاء، يذكّر الناس، في انتظام طبيعي، بأوقات التواصل مع الغيب.

فلسطين في قلوب التوانسة مهما خذلَها الحكّام أو تهاونوا في نصرتها

يلجون قاعة الصلاة المهيبة المُظلمة ويسجدون على حصائرها القديمة التي عُوّضت بزرابي مبثوثة، تنبعث منها "قراءات" جذّابة تليها محاضرات الشيوخ المتمكّنين ومباحثات الطلبة الوافدين. الازدحام مستمرّ طيلة اليوم؛ تحتكّ الأجساد بلياقة دون إشكال، كأنما قد دُرّبتُ على اختراق المارّة بلا تصادم ولا توتّر. حتى العربات الصغيرة التي تحمل البضائع والعلب الكرتونية والفواكه تمرّ وسط الزحام من غير مشقّة، تساعدها دعوات وصيحات وأغانٍ من قبيل: "وَسِّع! وَسِّع!"، تمتزج بتحايا "بابا العزيز" و"عمّي الباهي". الكلّ آباء وأعمام في هذه الضوضاء المحبّبة التي تزيّنها الشواشي الحُمر و"مشاميم" الفلّ والياسمين المعلّقة على الآذان، ذلك الياسمين الذي سُمّيت باسمه "ثورة تونس"، كانت بيضاء مخضرّة، تنشر العبق والأمل، مع أنّ تحتها قهراً صامتاً.

ظللتُ أبحث عن فلسطين في أسواق المدينة العتيقة، فأبصرتُها في تلك الكوفيّات الشرقية التي يعتمرها بعض الباعة، يلفّونها حول الشاشية الحمراء في معانقة بين الإرث العثماني وقضية فلسطين التي لم يُفرَّط فيها، وإنّما غلب عليها كَيْدُ بلفور وغدر الدول العُظمى التي وعدت ووفَت على حساب الأهالي الطيّبين. أُمعن النظر في صدور الباعة، على اختلاف أعمارهم، فأرى خرائط فلسطين الصغيرة مرشوقةً يمين البِذْلات، تميد كلّما مادوا: فلسطين في قلوب التوانسة مهما خذلَها الحكّام أو تهاونوا في نصرتها. من داخل الدكاكين الصغيرة المليئة بالألوان والعطور والفواكه والأقمشة، تنبعث بعض الأغاني الفلسطينية تتردّد من غير انقطاع، تعقب تلاوة الذِّكْر الحكيم.

فرغم انهماكهم في البيع والشراء وتسارُع خطواتهم صباح مساء، لا أحد يتردّد في الهتاف لفلسطين، هذه الأرض حاضرة دائماً شجية ومُحبَّبة. حزنٌ طويل بسبب العجز عن تقديم المساعدة الفعلية. لم يبقَ سوى هتافات "فلسطين حُرّة"، وسط نداء السماء وإشهارات الباعة. الكُلّ تحت رقابة مركز شرطة ماثل في قلب المدينة. مهمّته أن يجعل نسق السوق متوازناً، يُعدّله بذكاء وطيبة عبر "عَقد اجتماعي" ضمني منعقد بين سلطة وشعبٍ محجوزَيْن.

تشدُّدٌ فرنسي إزاء تونس بسبب مواقفها المؤيّدة لقضية فلسطين

أتمعّن في أطياف الثقافة السارية في هذا الازدحام بين الأزقّة والحوانيت، فأرى نسيجاً متناسقاً يتوارى في كلّ خطوة خطاها علماء جامع الزيتونة حيث كانوا يدرسون دواوين الفقه والتوحيد والسيرة والبلاغة والأدب، يشرحون متونها الوعرة ويعلّقون على حواشيها المغلقة، تلك التي صاغها أعلام الشرق من تفتازانَ إلى بغداد ومن بُخارى إلى غزّة. تنطوي ثقافات الإسلام بين سواري "الزيتونة المعمورة".

وعلى طرف المدينة الشرقي، مقارّ "بيت الشعر" و"الجمعية الخلدونية" و"المعهد الصادقي" شواهد على مَن أنشأها من علماء القرن التاسع عشر، رجال النهضة الفكرية الذين عمروها بمحاضراتهم، ومنها واحدة للشيخ محمد عبده (1902) وكلّهم تطلّع إلى الإصلاح وسعى إليه جهده لتحديث الفكر العربي ولسانه ومفاهيمه. صالحوا بين عراقة "الجامع" وحداثة "المعهد" الذي شيّده الصادق باي على مقربةٍ ليطعم المتون الشرعية بتحليلات العلوم الصحيحة. 

رنوتُ بناظري إلى المستقبل القريب أتلمّس ملامحه، تراءى لي هؤلاء الشباب الذين يعبرون الأزقّة بهواتفهم الجوّالة ولباسهم العصري: جينز ممزّق وجاكتات ملوّنة، ضحكاتٌ صافية ولَكْنة "بَلْدية" لا أُخطئها تمتزج بعبارات فرنسية وإنكليزية. أعلم أنّهم مقهورون أيضاً، غُبنوا في حقوق التعبير، وانحسرت أمامهم آفاق الارتقاء. لا همّ لهم سوى الحصول على تأشيرة عبور إلى ضفّة المتوسط الأُخرى، تلك التي يرونها من شواطئ قرطاج والمرسى. 

"ضفّة الشمال" حيث الصقيع والأمل في الالتحاق بالمدارس العليا والجامعات وكبرى الشركات. ينسى المساكين أنّ فرنسا، بأقصى يمينها وتقشّفها، باتت تفرض قيوداً صارمة. سفارتُها الكائنة أسفل "الأسواق" قلعةٌ تحيط بها المُدرّعات، فرضت طوقاً أمنيّاً حولها، لا يمكن الوصول إليها إلّا بمعجزة. ومن أسباب تشدّدها مواقف تونس المناصرة لقضية فلسطين وعدم الانحناء لإملاءات فرنسا.

فطن الشباب أنّ المستقبل لم يعد مقتصراً على "موسم الشمال". توجّهوا إلى كندا وأميركا وحتى إلى الشرق الأقصى بما فيه الصين، حاملين أحلام آبائهم وأجدادهم من باعة تلك الأسواق يتّكئون على ما تعلّموه من لسان التجارة "الذي يغزل الحرير"، ويستندون إلى طيبة طبيعية يفرضها وقوع "الزيتونة" وسط الأسواق، يوازن بين معاصرة "كلّية 9 أفريل للآداب والعلوم الإنسانية" في أعلى المدينة ودسائس السفارة في أسفلها، تلك التي تودّ إشغال الشباب عن فظاعات الإبادة "حاثّةً إيّاهم على التعمّق في قضايا الجندر والنسوية وشيء من حرّية الكاريكاتير".

هذه الأحياء قلبٌ نابض سرتُ فيها باحثاً عن وجوه أعرفُها أو أصوات ألفتها. صادفتُ منها ثلاثة بدت عليها آثار الزمن القاهرة. ما زال أصحابها متمسّكين بعمَلهم وعرَق جبينهم، صامدين رغم تحوّلات الحُكّام والإدارات. يعملون بذات الطُّرق التي اتّبعها الآباء والأجداد منذ قرون. ذاكرة حيّة تغذّيها العطور والبخور وتعلوها جلبةٌ لذيذة من مفاوضات الحرفاء مع الباعة في صيغ مسايرة ومجاملة لا تنتهي، مزيجٌ من مهارة أرباب الصنائع وصلاح الأولياء، محرز بن خلف وعلي بن زياد، أقطاب المدينة. 

لا أودّ أن تُسلَّط على هذا المتحف الحيّ أيّة دراسة عِلمية يُجريها زملائي المستعربون من جامعات فرنسا. سيعتبرون، قبل بدء الأبحاث، أنّ المرأة التونسية مقهورة، حتى تلك التي ترفل سعيدة في هذه الأسواق، محاميةً أو طبيبة تُسرع الخطو نحو عملها في المحاكم والمستشفيات القريبة. ما رفَّ جفنٌ لأحدهم من أجل آلاف الفلسطينيات اللواتي قضين في حرب الإبادة. ولا أودّ أن يُدرس هذا المكان بمقولات اشتقّها زملائي من دراسة بقاع الأرض الأُخرى، بل أُريدهم أن يسيروا وَجِلِين في أرجائه الفسيحة وأن يستحضروا ذكرى مَن مرّوا في دروبه من الأعيان ومن أبناء القبائل والعروش المهاجرة من "الأعراض" و"الساحل" والشمال الغربي.. ثم يصمتون. 


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس



إقرأ المزيد