"بَاهَبَل" لرجاء عالم: الواقع وهو يهذي
العربي الجديد -

عنوان رواية رجاء عالم "بَاهَبَل: مكّة Multivers 1945‪ - ‬2009"، (دار التنوير، 2023) هو، من ناحية ما، قراءة خاصّة للرواية أو إيعاز بقراءة. في العنوان ما يُشبه أن يكون تاريخاً، أو إطلالة على تاريخٍ بارز الزمان والمكان. هذان اللذان يتعدّدان ويتعاكسان في كون واحد. العنوان هذا هو ما أرادت الروائية السعودية (1970) أن تباشر به الرواية، وتقترح، من بعيد، قراءة لها. هذه القراءة تظلّ محدودةً بالزمان والمكان، لكنّهما لن يحضرا أرشيفياً، بل لن يحضرا مباشَرةً.

هناك، بالطبع، الأسماء والأمكنة والأوقات، لكنّ ذلك لا يبدو فقط بواجهته، بل في ما وراء الواجهة، فيما ينزل عمقاً، ويتّخذ مساراً قريباً من التحليل. بل إنّه يبني من الداخل منظومةً من صور واستعارات وانزياحات بلاغية، هي مقابل الواقع واقعٌ آخر، يملك فوق إضاءته على الواقع، حركيته وإشارته وسياقاته ومخزونه وداخليته.

سنكون هنا في إعادة تأليف وبناء مقابل. بل إنّ قدرة هذا الواقع المقابل على التحوّل، وعلى الانتقال طولاً وعرضاً، من أمام ومن وراء، ومن رسم ومحو، ومن انقلاب صفحة على أُخرى، وتقدُّم عود على بدء، تجعلنا في ملاحقة ماتعة، وإن اعتراها الجهد، إلى ما يتقاطع ويتعاكس ويتشيّد ويتداعى ويبرز ويختفي. في كلّ ذلك نحن لسنا فقط في سفر موصول، بل معركة ومجابهة ومطاردة وبناء ورجوع إلى الخلف. بالطبع نحن إذ ذاك أمام تشييد، يظلّ ينهض ويتجنّح ويستقيم، في ما يتّخذ مبنى وبعداً ملحميَّين.

واقعٌ يكاد يبدو لفرط ظلمته أكثر من أن يكون حقيقياً

نحن هكذا أمام مكّة وهي تنهض وتتداعى على نفسها، وتنتقل من وجه إلى آخر مضادّ، من دون أن تنقطع صلته بأوّليته، وتخرج من طور إلى أطوار معاكسة، ومن لحظة إلى أُخرى غيرها. كلُّ ذلك في سياق موصول، وإن من تداعيات وانهدامات وارتفاعات. إنّها فنتازيا الواقع، أو الفنتازيا قُبالة الواقع. بل هي الملحمة المكّية التي تتحوّل، بالتدريج، من مكان مُطبق إلى تحويم فنتازي، إلى تداخل وتشابك يصفوان على ما يكاد أن يكون حرب رموز وعدماً خصباً بالمعاني وموتاً وما بعد الموت وما فوقه، بل وغيباً من الكلمات والأفكار والصور والأشياء. نحن هكذا أمام توالد وانبعاث وتعدية من العدم، الذي له ما وراءه وما بعده.

تبدأ الرواية بانتحار نوري، تبدأ من هنا لكنّها أيضاً تخرج منه. تعود إلى القرن الماضي، حيث نجد العائلة السردارية التي يتحكّم فيها زعيمها مصطفى. هنا لا نجد فقط الواقع، بل نجد ما تحته، نجد واقعاً أسود يكاد، لفرط ظلمته، أن يبدو أكثر من أن يحصل، من أن يكون حقيقياً.

لا يشبه النظام العائلي الذي نجده في الرواية ما نعرفه من الأنظمة العائلية. نرى زعيم العائلة يمانع زواج بناته، ويحجر عليهن في المنزل، لا يريد لواحدة من صلبه أن تكون غرضاً جنسياً. الجنس هكذا مُهين أيّاً كانت صيغته، ولا يقبل السيّد أن تكون بنتٌ من سلالته، ومن دمه، مركوبةً لأيّ من الناس. صورةٌ أُخرى لفرادة الزعيم، حتّى في الأنظمة العائلية، إنّه يحبس ابنته المتزوّجة في البيت، لأنّ حليلها يعشقها ولا يبالي بأن يُظهر هذا العشق، ويتصرّف بحسبه، لكنّ مصطفى السردار يُهينه أيضاً أن يكون لابنته زوجٌ محبّ. هذا ليس سوى إعلان عن الجنس، عن الابنة بصفتها أنثى، وبوصفها لذلك غرضاً جنسياً.

رجاء عالم

من فنتازيا سوداء كهذه، نصل إلى فنتازيا مقابلة أكثر تعقيداً. بناتُ السردار الكبير لسنَ من جنسه، إنّ لهُنّ كيانات أُخرى. قمرية ابنته من جارية لا تمانع تعرية جسدها، وتقرأ، بعد أن غادرت إلى مصر لدى رجوعها، أيام طه حسين، وتكتب رسائل ليس في مكنتها إرسالها، لكنّها من حبر آخر ورؤية أُخرى.

حورية الحكيمة التي تترك في جيبها دائماً نقوداً لأطفال العائلة، نورية التي تملك روحاً نبويّة، ليس لدى العمّات سوى وجود حرٍّ وإنسانيٍّ وحضور سام، رغم كلّ شيء. هناك في صلب الرواية ذلك الوجود المزدوج لنوري وعباس، إنهّما واحد. عباس الفنان المستغرق في تأليف فيلم عن نساء العائلة، يحمل نوري في داخله، لا يحمله فقط، بل ينازعه ويرتدّ عليه. إنّه ونوري، الأستاذ الجامعي، يتقاسمان ذلك الميل الفنّي. نوري بالمتحف الذي اجتلب إليه تماثيل، لعلّه نحاتٌ مضمر. عباس بفيلمه.

الاثنان يتبيّن أكثر فأكثر أنّهما واحد، هما واحدٌ رغم أنّ لهما اسمين مختلفين ومهنتين مختلفتين، رغم تضادّ مزاجيهما وشخصيتيهما. إنّهما واحد. فهما المنتحر الذي بدأت به الرواية. هل هذا رجوع إلى ما قبل الانتحار، أم إنّهما لم يوجدا قطّ؟ عباس يبدو كما لو كان الراوي الأوّل، هل هو حقيقي، وإذا لم يكن فمن أين أتى؟ إنّه تماماً من اللاحقيقة، من العدم، من الموت نفسه.

هكذا تنقلب الرواية من الواقع الفظّ القاتم الذي بدأت به، إلى أواخر القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين. نحن هكذا أمام فصام جامع، قد يكون أيضاً لوناً من اللاحقيقة المطلقة. إنّنا، منذ بداية الرواية إلى أواسطها ونهايتها، نواجه أدوات وأنماط عيش متبدّلة، تنتقل من مرحلة الى أُخرى، تسبقها أو تتلوها بأشواط، وكأنّ النهايات، كما البدايات، وليدة هذا الذي لا تفتأ رجاء عالم تسمّيه فصاماً. المصطلح الذي قد يكون اسماً آخر للاحقيقة، للموت الذي تنتهي الرواية بالدوران حوله.

هكذا نجد مقابلة هائلة بين الواقع وعكسه، المبني من أدواته ومادّته، الفنتازيا والخيال واللاحقيقي. كلّ ذلك يستعير الواقع ويستعير الزمن، وفي النهاية الموت يخلق كلّ شيء.


* شاعر وروائي من لبنان



إقرأ المزيد