العربي الجديد - 1/18/2025 9:18:01 AM - GMT (+3 )
رأى عبّود في الشدياق أباً للصحافة العربية/ (الصورة: ضريح الشدياق في الحازمية)
في شارع مونو التراثي ببيروت، وبالقرب من "المكتبة الشرقية"، يقع مقرّ مكتبة ودار نشر "صنوبر بيروت". بابٌ أصفر صغير يُفضي إلى غرفة تكاد تُطوى في غمرة عمران محيطها الإسمنتي، أراد لها أصحابُها أن تأخذ طابعاً بعيداً عمّا نشهده من "صخب الإصدارات"، بل نشرٌ معقول وبخطّة محدودة تُراعي المضمون. وعن هذه الدار اللبنانية صدر حديثاً الجزءان الثاني والثالث من سلسلة "منسيّات"، بعنوان "الشدياق في المكشوف"؛ نصٌّ طويل للأديب مارون عبّود (1886 - 1962)، رأى النور في 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1938 ضمن عدد خاصّ من جريدة "المكشوف" البيروتية، كانت قد احتفت فيه، حينها، بإرث أحمد فارس الشدياق (1804 - 1887) لمناسبة مرور 50 سنة على رحيله.
التقت "العربي الجديد" بمديرة النشر في الدار، الكاتبة والباحثة هالة البزري التي تحدّثت، أوّلاً، عن فكرة سلسلة "منسيّات"، لافتةً إلى أنّها "تستلهم سلسلة 'الروائع' لفؤاد أفرام البستاني (1904 - 1994)، التي تربّت أجيالٌ لبنانية عليها، كتبٌ صغيرة الحجم، 64 صفحة تقريباً، لكنّها ذات أثر كبير. بدأت بالصدور في الثلاثينيات وامتدّت لسنوات طويلة حتى الثمانينيات، وصدر منها 57 جزءاً، وكان القائمون عليها يُقسّمونها لأكثر من جزء حين يكون الموضوع أطول من عدد الصفحات المعتمَد".
عدد جريدة "المكشوف" هو كلّ ما بقي من "مهرجان الشدياق"
وتُتابع: "حين نتحدّث عن فؤاد أفرام البستاني، فنحن نقصد المُصلِح والمعلِّم الذي أشرف على مجلّة حملت اسم 'المدرسة'، وكانت تابعة لجريدة 'المكشوف'. ولِمَا تعنيه لنا سلسلة 'الروائع'، حاولنا أن نُعيد إحياء فكرتها واستلهامها اليوم في 'منسيّات'، فطلبنا من الفنّانة لينا مرهج أن تُصمّم الغلاف، بِوَحي من الأغلفة التقليدية ذات الزخرفات الهندسية والحيوانية. وخرجنا بتصميم قريب من تصوُّرنا عن زمن النهضة العربية التي نستلُّ منها النصوص، وتمتدّ من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. كما اعتمدنا لكلّ عَقْد من السنوات لوناً خاصّاً، فكما ترى أنّ نصّ الجزء الأوّل من 'منسيّات'، الذي صدر العام الماضي تحت عنوان 'بيروت'، يحمل اللون الأزرق، وهو مُستَلٌّ من 'دائرة المعارف' للمعلّم بطرس البستاني ويعود تاريخه لعام 1880، في حين أنّ نصّ مارون عبّود عن الشدياق، الصادر عام 1938، يأخذ اللون البرتقالي".
هذا من حيث الشكل، أمّا من حيث النصوص، فالفكرة، وفقاً للبزري، "تقوم على استعادة نصوص أدبية قصيرة ليست في متناول القُرّاء بشكلٍ سهل، بعضُها مُضمّن في موسوعات ضخمة وباهظة الثمن، وهناك نصوص لم تُطبع سابقاً سترى النور مع 'منسيّات'، وبالتالي نحن لا نهدف إلى نشر النصوص الشائعة أو متعدّدة الطبعَات".
وتستطرد: "البداية مع 'بيروت' بطرس البستاني (1819 - 1883) انبنَت على حديث مع الباحثة رنا عيسى، التي سبق أن اشتغلت على بعض مواضيع 'دائرة المعارف'، ومن هنا قدّمنا البستاني على الشدياق الذي كُنّا ننوي البدء به، وتولّت عيسى كتابة السيرة الذاتية، بعدها قمنا باختيار النصّ المُراد نشرُه، وعادةً ما أقوم بتحقيق النصوص بنفسي، ويدقّقها لغوياً محمد الفاضلي الذي يضبط القصائد وينظر في إشارات الأبيات الشعرية المُضمَّنة بالقطع النثرية المنشورة، والتلميحات المستبطَنة في النصّ الأصل، في حين تتكفّل سارة شاهين بعملية التنضيد والمراجعة اللغوية، أمّا الإخراج الفنّي فتشرف عليه فيليبا دحروج، بينما تُنجَز خطوط الأغلفة بريشة الخطّاط علي شوربا. كما نستعين أحياناً، لو تطلّب الأمر، بمُختصِّين بالتاريخ البيروتي، كون معالم المدينة وأسماء أحيائها قد تغيّرت".
تمتاز لغة عبّود بأسلوب صحافي يستلهم الشعر والمقامة
كذلك تلفت الكاتبة والناشرة، في حديثها إلى "العربي الجديد"، إلى أنّ "الكُتيّب الثاني من 'منسيّات' كان من المُفترض أن يكون 'المقامة البخشيشية' للشدياق، التي لم يسبق أن صدرت سوى بطبعة عربية فرنسية في الجزائر أواخر القرن التاسع عشر، وفي ذات الوقت الذي كنّا نحضّر لإصدار المقامة، نُشرت في عمّان دراسةٌ عنها، فأجّلنا العمل عليها حتى وقت لاحق، على العِلم أنّ الدراسات لا تندرج ضمن مشروعنا المُخصَّص لإعادة إحياء النصوص القديمة كما هي من دون إضافات أو تعاليق نقدية طويلة، سوى بعض الحواشي والشروح".
وعن قصة "الشدياق في المكشوف" تُفصِّل الناشرة اللبنانية: "أعمل على 'المكشوف' كجريدة وهي بين يدي هذه الأيام، وكنت أعتقد أن نَصّ مارون عبّود هو ذاته كتابه المعروف عن الشدياق بعنوان 'صقر لبنان: بحثٌ في النهضة الأدبية الحديثة ورجُلِها الأوّل'، ولاحقاً اكتشفت أنّ 'صقر لبنان' مكتوب بعد 25 عاماً تقريباً من عدد 'المكشوف' الخاصّ الذي أعدّه وكتبه عبّود بمفرده، وفيه نجدُ إضافات من روح الموقف واللحظة غير مُضمَّنة في 'صقر لبنان'. بدأنا بالإعداد والتوضيب كمرحلة أُولى، وقسّمنا المادّة على كُتيّبين، وشرَعنا بالعمل على الهوامش، وفَهْم المرحلة التاريخية وتلميحات مارون عبّود، تلك الشخصية الأدبية المرموقة التي لا تقلّ في نقديّتها وسخريتها عن الشدياق. ولا ننسى أنّ عبّود ضمّن هذا النصّ مجموعة رسائل للشدياق، ولولا نشرُه إيّاها لكانت قد ضاعت، كما نراه يتولّى أحياناً الردّ على بعض رسائل الشدياق المُرسَلة لأحد إخوته قبل مئة عام من زمن عبّود، بلغة تُحاكي لغة الأوّل وتلميحاته".
ولو تصفّحنا الكُتيّبين، سنعثر على قصّة بتوثيق خاصّ يدوّنها مارون عبّود بلغته الرشيقة، تتضمّن أساليب صحافية من وحي الشعر والمقامة، فهو ينظر إلى الشدياق باعتباره "أبا الصحافة العربية"، ويكشف هذا العدد الخاصّ أيضاً عن عوائق تنفيذية ما زلنا نلمس ملامحها إلى اليوم. لجانٌ تتشكّل وإعلاناتٌ عن مشاريع لا يلبث عقدُها أن ينفرط، ففي بادئ الأمر تشكّلت لجنة تكوّنت من أربعين شخصاً تدَاعوا لتنظيم "مهرجان الشدياق"، تحت رعاية الرئيس اللبناني آنذاك، إميل إده، لكن في النهاية لم يتبقّ في الميدان سوى عبّود وصاحب "المكشوف" فؤاد حبيش اللذين تولّيا إصدار العدد.
كذلك يُشيد صاحب "قبل انفجار البركان" (1958) بدَور مدير الأشغال العامّة في بلدة الحازمية، ميشال باحوط، الذي أشرف على إعادة ترميم ضريح الشدياق في مقابر المتصرِّفين، بعد طول إهمال، وفي تضاعيف كلّ ما سبق يؤكّد عبود أن شيئاً لم يتغيّر بل ازداد الزمن سوءاً. ويخصّ عبود في نصّه كتابَي الشدياق "الفارياق" و"سرّ الليال" بإطراء كبير، فيرى الأوّل لا يقلّ أهمّية عن "اعترافات" روسو، وأعلى مقاماً من "أيام" طه حُسين، أمّا الثاني فقد "كشَف الغطاء عن ناووس اللغة العربية... ولو أُعطيتُ من الأعمار ما تمنّاه المتنبّي لسيف الدولة لدرستُ الشدياق عن بني أُمّي جميعاً، لأُعرّفهم بأخيهم وابن عمّهم هذا".
وتختم هالة البزري حديثها إلى "العربي الجديد": "استغرق العمل على الكُتيّب شهرَين، حيث اشتغلنا عليه أثناء الحرب الأخيرة على لبنان، بعدما تعطّلت بقية أنشطتنا النشرية، فأنجزنا ما يُمكن إنجازه خلال هذا الوقت ولم نجلس مكتوفي الأيدي. نحن في 'صنوبر بيروت' لا ننظر لإنتاج مثل هذه الموادّ بعين الصعوبة والتحدّيات التي تُواجه الناشرين، على العكس تماماً، ما إن اعتمدنا العام الماضي كلّ التفاصيل الفنّية، حتى وجدنا أنفسنا مع الكتاب الثاني نُنجز بشكل أسرع. وطبعاً، هناك نصوص جديدة نحضّرها في 'منسيّات'، منها نصّان للعلّامة النهضوي عيسى إسكندر المعلوف (1869 - 1956)، الأوّل يتعلّق بالمهن الشاميّة والثاني باللبنانية، وكذلك 'المقامة البخشيشية'، ونَصٌّ مسرحي لزينب فواز (1860 - 1914)، ومنتقىً للنساء المشرقيات من كتابها الموسوم بـ'الدُّرُّ المنثور في طبقات ربّات الخدور'".
إقرأ المزيد