العربي الجديد - 1/18/2025 9:18:01 AM - GMT (+3 )
الشعور بالعزلة مخيفٌ إلى حدّ ما. ربّما هذا ما دفع بليز باسكال إلى القول: "إنّ تعاسة الإنسان ترجع إلى شيء واحد لا غير: عدم قدرته على البقاء وحيداً". وللعزلة أنواع وأصناف وأشكال، فهناك العزلة المؤقّتة، وهناك الأبدية. هناك عزلة قسرية وأُخرى اختيارية ومرغوبة. ثمة عزلاتٌ تقودنا إلى المتعة والإبداع. وهذه تختلف عن تلك التي تقودنا إلى الجنون.
حتى لغوياً ثمّة مرادفات كثيرة للعزلة، مثل: الوحدة، الانقطاع، الانفصال، التنحّي، الانزواء، الخلوة، الانفراد، التوحّد، الاختلاء. ولكلّ من هذه المرادفات تعريفها الدقيق الذي تختلف به عن غيره.
يبدو أنّ الكاتب الإسباني خوان غوميز بارثينا يعرف العزلة جيّداً، ولذلك قرّر، في كتابه "خرائط العزلة" الصادر حديثاً عن دار "Seix Barral" أن يضع لها تضاريس وجغرافية خاصّة، معتمداً في ذلك على التخصّصات الأُخرى: التاريخ والأدب والشعر وعلم الاجتماع وعلم الأعصاب والأنثروبولوجيا والدين.
عبر أربعمئة صفحة من البيانات والحكايات والأساطير والشخصيات والسياقات التي تُظهر أنواعاً من العزلة عبر التاريخ، يحبك بارثينا فصول كتابه الثلاثة عشر على شكل أقاليم/ فصول منعزلة، واضعاً لكل إقليم اسماً خاصّاً به: غابة، جزيرة، منزل، كون، جلد، شتاء، روح. وهكذا يروي، في كلّ فصل أو إقليم، استناداً إلى قائمة مراجع موسّعة، حيوات المنعزلين العظماء في التاريخ والأدب.
يستخدم الزعماء الشعبويون العزلة للتلاعب وتضليل الجماهير
غير أنّ خريطة العزلة تبدأ من الكاتب نفسه، حيث يروي تجربة قادته إلى غابة أرجنتينية، حيث ستنفتح هذه التجربة على أحداث شيقة: الموت، الانتحار، الإساءات، الحب وغيرها من الأشياء.
من الغابات إلى الصحارى، ومن هذه إلى الجزر والقمم والمحيطات ثم صعوداً إلى الفضاء، يأخذنا الكاتب عبر الأقطاب والكون، ثم يرتحل بنا إلى الداخل، إلى الحدائق، والغرف، والمدن، كأن المكان انعكاس لأنواع العزلة المختلفة: من عزلة الراهب، إلى عزلة المستكشف، مروراً بعزلة رائد الفضاء، أو ذلك الحوت القابع في المحيطات، انتهاء بذلك الشعور المرير الذي يحسّ به الإنسان عندما يكون برفقة البشر أو في مدينة نابضة بالحياة.
في ظلّ هذا كلّه، قد يكون الفصل المخصص للاستبداد وكيف يستخدم الزعماء الشعبويون العزلة للتلاعب والتضليل بالجماهير الأكثر أهمية، وكذلك المعاني المختلفة والأبعاد التي تُعطى للعزلة التي يعيشها الرجل، والعزلة التي تعيشها المرأة.
تركيبة الكتاب بهذه الطريقة سمحت للكاتب أن يكون حرّاً في السرد، فعمله ليس روائياً، بل هو أقرب إلى كتابة مفتوحة على الأصناف كلّها، ففيه الشعر، والقصّة، والسيرة الذاتية، ووصف الأماكن. كلّ ذلك يسخّره من أجل فكرة واحدة: فهم شعور العزلة ومعناها في مجتمعات اليوم.
من بين خرائط العزلة التي يصفها الكاتب الإسباني، قد تكون تلك العزلة المزدحمة التي تحدّث عنها الشاعر الأوروغوياني ماريو بينيدتي هي الأكثر مرارة، لا سيما تلك العزلة "المكتظة بالذكريات، والقبل، والألوان، والظلال، والرغبات، والليالي؛ تلك العزلة المزدحمة بالعناقات، بغيابات من حضروا وحضور من غابوا؛ تلك العزلة المليئة بالعيون، والجوع والجدران. تلك العزلة المليئة بالأحقاد والأحلام. العزلة التي يذهب فيها كلّ شيء ويبقى شيء واحدٌ لا غير: وجه من نحبّ".
وُلد خوان غوميز بارسينا Juan Gómez Bárcena في سانتاندير عام 1984، وحصل على إجازة في الأدب المقارن والتاريخ والفلسفة. له في القصّة القصيرة: "النائمون" (2012)، وفي الرواية "سماء ليما" (2014)، و"كندا" (2017)، و"ولا حتى الأموات" (2020). تُرجم إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والبرتغالية والهولندية.
إقرأ المزيد