الدكْلنة
العربي الجديد -

يسعى الإنسان منذ القدم إلى الحفاظ على مكتسبات ورثها عن سلفه، ويواصل في الوقت ذاته اجتهاده في تطويرها، مع الحرص على أن يبتكر في شتّى الفنون والعلوم والمعارف، بما في ذلك اللغة التي يقبض بها الإنسان على الوجود، ويُعيّن بها ذاته وما حوله، والتي تتطوّر هي الأُخرى بتطوّر الحياة البشرية، ما دام المتكلّم الأوّل لم يقلها كاملة، لذلك نجد من الناس، خاصّة اللغويّين، مَن يسهر على أن تكون لغة مجتمعه وثقافته مواكبة للجديد في المعيش ولدى شعوب العالم.

ولا يخفى أنّ غزو الآخر الأوروبي لثقافات المستعمَرات قد أحرج التابع بلغاته وثقافاته المنتهَكة، التي ألْفت نفسها عاجزة، ليس عن استيعاب قيم الآخر وأفكاره ومُبتكراته فحسب، بل وعن إيجاد الأسماء المعيِّنة لذلك الفكر بتصوّراته ومفاهيمه وتلك التكنولوجية الحديثة الوافدة عليه، وباقي العلوم الغريبة التي أوجدها الإنسان الغربي، ووضع لها تسميات طريفة، فاضطرّ التابع المستعمَر إلى البحث في قواميسه لعلّه يعثر على مكافئها، أو يُوجِد مقابلاً في لغته يستوفيها معنىً ومبنىً، أو حتى إلى ابتكارها بالتنويع على شبيهِها.

ومعلوم أنّ الرغبة في التغلّب على هذه الصعاب قد حدت بالبلدان العربية إلى معالجة المشكلة مؤسّساتياً، فأُنشئت مجامع اللغة، ومكاتب التعريب وغيرهما للاجتهاد في وضع المقابل العربي للفظ والمصطلح الغربيّين، توقاً إلى التوحيد عوض التشتيت الذي يتسبّب فيه الاجتهاد الفردي، والذي للصحافة المتوسّلة بالترجمة دور ملحوظ فيه، لأنّ الرغبة في نشر الخبر سريعاً تُفضي إلى الترويج لاستعمال مفردات وتراكيب وعبارات غير مألوفة، بعضها يضمن لذاته التداول، وبعضها يستهجن، وآخر يُستعمل في بلد أو إقليم دون آخر، إلخ.

مقابلٌ يحافظ على الأصل اللاتيني بالصدور عن أصل عربي

ويبدو أنّ للترجمة دخلاً في هذه المشكلة، لأنّ العجلة في النقل عن وكالات الإعلام الغربية وصحافتها أساساً، وإقدام غير اللغويّين والمترجمين المتخصّصين في الاجتراء على ابتكار أسماء أثناء النقل إلى اللغة المستقبِلة، يتسبّبان في آفات لسانية وتواصلية متنوّعة، لعدم لجوئهم إلى ما أوجده فقهاء اللغة العربية من مسوّغات عُرفت بالدخيل والمعرّب والمقترض وغيرها.

وفي هذا الإطار، أقترح اجتهادي المتواضع في وضع ترجمة تكون مكافئاً لمفهوم epistemic decolonization بالإنكليزية، الذي استعمله مثقّفو الدراسات الثقافية ذوو الأصول الأفريقية، من الذين يشتغل معظمهم في الجامعات الغربية، ونجده هو نفسه باللغات اللاتينية مع تنويع طفيف، والذي يُترجم إلى العربية بالتحرّر من الاستعمار، وبإنهائه وإزالته والتخلّص منه في كلّ المجالات، بما في ذلك المجال المعرفي، الذي تهيمن عليه المركزية الغربية، التي عملت على الترويج لنظرياتها المعرفية كي تغدو كونيّة.

لقد بدا لي أنّه بوسعنا الاسترشاد بالمعجم العربي، بحيث يوضع مقابلٌ يحافظ على الصلة بين الأصل اللاتيني بالصدور عن أصل عربي خالص، فوجدتُ أنّ لـ de+ colonization شبيهاً دلالياً في مادّة "دكل" في لسان العرب، ذلك أنّ من بين ما تُفيده: (الدَّكَلة: القوم الذين لا يجيبون السلطان من عزّهم. يُقال: هم يتدكَّلون على السلطان أي يتدلّلون. وتدَكَّلوا عليه: اعتزّوا وترفّعوا في أنفسهم، وقيل: كلّ من ترفّع في نفسه فقد تدكّل)، فارتأيتُ أن نضع في المقابل مفهوماً عربيّاً لـ decolonization، يؤالف بين الدخيل والمُعرّب في الكلمة الواحدة وهو: الدَّكْلَنة.

ولا يخفى أنّ هذا المفهوم، أي الدَّكلنة، يصدر عن موقف يُفيد اعتزاز المتحكَّم فيه، أي التابع المستعمَر، بتاريخه وثقافته، ممّا ينمّ عن مقاومة للسلطان الغربي بالتّدَكُّل، ثمّ إنّه يُعفينا من إطالة التعبير عن مناهضة الاستعمار بكلمتين أو أكثر أو استعمال كلمة غربية هي مناهضة الكولونيالية، في الوقت الذي تتيح لنا فيه الكلمة العربية الفصيحة "الدَّكْلنة" الوفاء بالمعنى في اللغتين العربية والأجنبية معاً.


* أكاديمي ومترجم من المغرب



إقرأ المزيد