تونس جغرافيا سديمية.. تحوّلات مدينة لم أعد أعرفها
العربي الجديد -

مطارُ تونس شبه هادئٍ. الحركةُ بطيئة. شبابٌ من الشرطة وأعوان الجمارك يتحرّكون ببطءٍ مثل الظلال في ضوء النيون الأبيض الكابي. هكذا بدا لي الأمر اليوم وأنا أزور تونس. أوّل ما لفتَ انتباهي قاعة المطار ذات الزخارف الكيتش التي تُذكّرك بديكورات فنادق الحمامات عندما يريدُ أصحابها أن يُضفوا عليها شيئاً من الطابع المعماري العربي، فإذا بهم ضحية فونتازماتهم وتخيّلاتهم المرضية عن العمارة التراثية، والأمر طبيعي عندما يكون الأميُّ في موقع القيادة.

كان زين العابدين بن علي متواضعَ التعليم، بل هو أقرب إلى الأميّ، وكان الناس يتندّرون على جهله، فهو لم يتجاوز المرحلة الثانوية من التعليم، فكيف يكون أتباعه في نفس المستوى أو أقل، حتى وإن حملوا شهادات عليا فتراهم يخفضون مستواهم مثل وزيره للثقافة باقي الهرماسي. كان الرجل أستاذ علم اجتماع متخرّجاً من "جامعة كاليفورنيا"، ويومَ قرّر خدمة السلطة وخدمة نفسه قبل السلطة، قام بعملية تأهيلٍ نحو الأسفل ليتمّ قبوله في النادي. قال لي في حديث خاص، وقبل أن يتقلّد الوزارة:

"فلان... - وكان المدير العام لشركة تونس الجوية كما يسمّون "شركة الطيران التونسية" - لا يعرف كيف يشتغل". قلتُ له كيف ذلك؟

   
جولة الصباح

ذهبتُ هذا الصباح إلى شارع بورقيبة جول فيري سابقاً، كان الطقس شبه خريفيّ. سماءٌ رمادية بيضاء، ريحٌ خفيفة تجتاح الشوارع الخالية إلّا من بعض المارة. بدت المدينة الكولونيالية كئيبة كما لو كانت خارجة لتوّها من الحرب. يتحرّك الناس كالأشباح؛ يرتدون ملابس مُستعملة تأتي بها بواخر أوروبا أو ما يُسمّى في تونس "الفري بري free prix"، الذي له أسواق في كامل المدن التُونسية. أحياناً ترى رجلاً ببنطلون نسائي أو حذاءٍ نسائي وهو لا يدري ذلك، فالموضة في الغرب تطوّرت جندريّاً ومضت إلى تقريب وتشابه اللباس الذكوري والنسائي. 

شارع مرسيليا فقدَ ألقه القديم، تحوّل إلى شارعِ مطاعم الأكلات الخفيفة والبارات الشعبية. سرتُ في اتجاه شارع بورقيبة. عبرت من أمام بوابة الكوليزي الكبيرة ثمَّ وصلتُ إلى مدخل العمارة التي تحوّلت كلّ شققها إلى مكاتب أطباء ومحامين. 

المدخلُ بابٌ حديديٌّ نصف موارب مُغطى بالكرتون المثبّت في فجوات زخارف الحديد آر نوفو. امرأةٌ فقيرة عجوز ريفية تجلس في هذا الباب الصغير خلف صندوق من الورق المقوى تبيع السجائر. ذكرتني بِبوابي وحرّاس بنايات قاهرة الخديوي إسماعيل بعمارتها النمساوية يونغن شتيل Jugendstil، التي تحوّلت هي الأخرى إلى مدينة ريفية. 

آه هذه العواصم العربية الممتدّة، والتي هي عبارة عن قرى متلاحمة؛ عواصم لها عناء ومتاعبُ المدن الكبرى وخدمات القرى. أتذكّر كتابات المهندس حسن فتحي الرثائية عن القاهرة ما قبل 1952، قبل الانقلاب العسكري الذي قاده الشاب عبد الناصر ورفاقه. كان المهندس حسن فتحي قد نشرَ مقالاتٍ عدّةً عن التحوّلات العمرانية الدراماتيكية التي شهدتها القاهرة منذ الستينيات؛ المصير نفسه عرفته تونس بدرجات مختلفة.

لقيت الرجلَ في مدينة الحمامات أثناء انعقاد مؤتمرٍ عن المدينة العربية، وحدّثني بكثير من الحسرة عمّا انحدرت إليه المدن العربية، عن حالة التحديث الزائف والترييف الذي اجتاحها؛ وأنهى كلامه: "أنا أقيم في القلعة، في بيت يعود للقرن السابع عشر". 

مرقتُ في رِواق بناية "الكوليزي" الدائري الذي تتوسّطه القهوة المعروفة بـ"قهوة الريتوندا La Rotonde"، ذات السقف الميكانيكي المتحرّك الذي يفتح في أماسي الصيف الحارة. بدت ستائر الجوخ الأحمر التي تلفّ بالقهوة قديمةً باهتة اللون. اختفى روادها من المثقفين. كانت قهوة الكتّاب والشعراء من جماعة "نادي القلم". فقد كان لهم مكتبٌ في أحد طوابق البناية. 

في الصباحات، كنتَ ترى الأستاذ المحقّق عبد الحفيظ منصور، جالساً وسط رفقة من الأساتذة والقضاة ورجال التعليم المتقاعدين. لم أر أحداً من الرواد القدامى. تجوّلت في كامل الأروقة. 

عَرف "الكوليزي" مجده في الثلاثينيات. كان قد بناه أحد أثرياء الجالية الإيطالية بتونس، وذات سنة، وفي أثناء تجوالي في العالَم، دخلتُ إلى رواق "فيتوري إمانويل Galleria Vittori Emanuel" في مدينة ميلانو، وإذ بي أجد نفسي في "كوليزي" تونس. حدّثني والدي أنّه حضرَ حفل افتتاح "الكوليزي" الذي أقامته فرقة جاز من السود، جاءوا بها خصّيصاً من أميركا. 

باب البحر في المدينة القديمة، تونس (Getty)

فجأةً وجدتُ نفسي في مكانٍ آخر لا أعرفه. اختفت محلّات الصاغة، والعطورات والأحذية والساعات الفاخرة ومحل "الأم والطفل La mère et l’enfant" الشهير ببيع ملابس ولِعب الأطفال، ومحل الخياطة "روزي"، حيث كانت تأتي بنات العائلة المالكة ونساء الطبقة المُرفهة لخياطة فساتينهن. 

الملهى الليلي "الكريزي هورس" صار سقيفةً مظلمة. وقهوة "الكيلت" فقدت ملامحها. ظلَّ الرُّكْح الدائري في مكانه. اختفى "بابي سلامة"، الساعاتي اليهودي، واستوديو "غيز Gyse" للتصوير الشمسي حلّ محلّه مصور حاراتي.. اختفت العارضات المضيئة والفترينات الترويجية الصغيرة التي كانت في مدخل "الكوليزي" من جهة شارع باريس وحلّت محل كلّ هذا مطاعم بأضواء حمراء وصفراء وزخارف كيتش، كما لو أنّك في إحدى قرى الريف التونسي. 

"وكالة طيران سويسرة" في مدخل "الكوليزي" الذي على شارع بورقيبة بفترينتها المُضاءة على الدوام والتي تعرض نماذج طائرات صغيرة بيضاء كانت تبدو لي مثل لعب الأطفال، والشعار البلّوري الأحمر الذي يتوسّطه صليب أبيض، وحذو الوكالة محل مجوهرات بن يوسف الذي تحوّل هو أيضاً إلى مطعم يبيع الشاورما. 

بعد السياسي الشعبوي، صار لدينا المثقّف والفيلسوف الشعبوي

في مدخل الرواق ثمّة كشكٌ من الألمنيوم يبيع الجرائد والسجائر ركَنوه جنب البوابة الحديدية الداخلية. كانت رخص إنشاء هذه الأكشاك تُمنح في كثير من الأحيان للبلطجية من المليشيات الحزبية والمخبرين ويسمح لهم بتجاوز قوانين إدارة التراتيب التابعة لبلدية الحاضرة، كما كانت تسمى بلدية تونس لدى إنشائِها أواسط القرن التاسع عشر. هكذا انتشرت، وبشكلٍ فوضويٍّ، هذه الأكشاك التي تجاوزت المساحة المُعدّة لها وتحوّلت إلى شيء يُشبه الدكان يبيع اللعب والكتب القديمة والأحذية القديمة أيضاً؛ كما هو الكشك الذي يقع في شارع باريس أمام دار الثقافة "ابن رشيق"، ومنحت المدينة مَلمحاً ريفياً. 

وسطَ الشارع الرئيسي الذي كان يُسمّى شارع باب البحر لدى إنشائه في القرن التاسع عشر، وتحوّل مع انتصاب الحماية الفرنسية إلى شارع جول فيري، الرئيس الفرنسي الذي أمر بالاستيلاء على تونس، وتحوّل بعد الاستقلال إلى شارع حبيب بورقيبة واليوم يطلقون عليه اسم شارع الثورة، وسط هذا الشارع الذي ظلَّ منذ إنشائه حوالي 1850 عصبَ المدينة، وليس بعيداً عن "قهوة باريس"، وفي بوابة "مقهى الكابيتول" المجاور، تنتصبُ مجمرة فحم حديدية سوداء من جراء السخام لإعداد جمر الشيشة، أي النرجيلة، التي انتشرت في الحي الحديث. 

قاعة سينما ومسرح "الكوليزي" تكتظُّ جدرانها بالمُلصقات الملوّنة: الأحمر والأصفر الفاقعان. هذا المسرح الذي غنّت يوماً على رُكْحه ايديث بياف وإيف مونتون تحوّل إلى شيء شبيه بالكافي شانطا مقهى الرقص والغناء الشعبي. فقدَ رواق "الكوليزي" سِمَته، تعرّضت مدينة تونس إلى كارثةٍ معمارية وعمرانية. 

مررتُ بالمسرح البلدي ذي العمارة آر ديكو التي تُذكّرك بزخارف بعض بوابات محطّات مترو باريس. وكشكُ المسرح المبنيّ بنفس الرخام الوردي وله الديكور نفسه. كانت هناك سيارة بوليس مركونة بين مدارج بوابة المسرح والكشك، كما لو أنَّ هناك تهديداً إرهابيّاً. آه الإرهاب؛ الكلمةُ التي ابتدعها الأميركان، وأدخلوها للتداول، وأدخلتها الدّول مثل القردة إلى تشريعاتها، ولم يدركوا أنَّ هذه الصفة هي تطلق حصراً على كلِّ من يحارب الهيمنة الأميركية والصهيونية على المنطقة، وأنَّ الإرهاب الحقيقي هو قصف المدنيّين الآمنين بطائرات "إف 16" و"إف 35". 

وصلتُ إلى قهوة باريس. ركنُ الرسامين الذي على الشارع خالٍ. كان هناك عجوزٌ بلباسٍ أسود يجلس في كسل وفي انحناءة خفيفة على الطاولة المستديرة التي أمامه متفرّجاً على العالم. سرحتُ بخيالي إلى جماعة "مدرسة تونس للرسم"، التي كانت تجتمع في هذا الركن. تذكّرتُ زبير التركي بضحكته المجلجلة، وعمار فرحات وعبد العزيز القرجي، وقد ينضم إليهم بعض السياسيّين الذين أُحيلوا إلى التقاعد السياسي يوم منعَ بورقيبة الأحزاب. أذكرُ الدكتور سليمان بن سليمان، الذي كان يأتي نادراً لمجلس زبير التركي، أذكرُ تقزّزه من تعريب التعليم وأتذكّر عبد الحميد بن مصطفى، الأمين العام للحزب الشيوعي التونسي. قال وهو يضمُّ شفتيه ويفتح كفيه أمامه في حركة كما لو كان يتلقّى شيئاً:

- "عام 63 أغلق بورقيبة الأحزابَ وعدنا إلى بيوتنا". وضم شفتيه وصرّ على أسنانه بقوة.

ماذا أقول؟ مدينةٌ تريّفت بالكامل. مشهدُ الناس في مقاهي الصباح، في شارع العربي زروق الذي صار شارع ابن خلدون. تحوّل المحلّ الذي كان يوماً "غاليري مدام ناحوم" إلى مطعم يبيع السندويتشات والشاورما وقهوة شعبية تشتعلُ في بابها مجمرة لإعداد النرجيلة ويجلس رجال ذوو سُحنٍ سمراء متغضّنة. رجالٌ متعبون، معطوبون لوّحتهم الشمس. هذه النماذج البشرية التي أراها تتحرّك أمامي هي عبارة عن خيالات. 

كان "مقهى لونيفار" يضجُّ بشباب الرسامين والحالمين بالتغيير أيام الزعيم الأوحد بورقيبة "أب التونسيّين"، كما كان يشبّه نفسه بمصطفى كمال أتاتورك ما يعني "أب الأتراك"؛ ولم يكن الرجل أوحد ولا كان "أب التونسيّين"، كان، كما قال لي باهي الأدغم، رجلاً جاء ببرنامجٍ حدّده له السياسيُّ الفرنسي بيير منديس فرانس.

ظللتُ أتأمّل... شعبٌ عاش في السنوات الأخيرة متفرّجاً ومشاركاً في مسرحية إعلامية مثل الكابوس، ولكنّهم يعيشونه كشريطٍ هزليٍّ. إعلامٌ يقدّم صورة مزيّفة عما يتمُّ فوق الأرض. بعدما عانى ستين سنة مما يسمونه التحديث. كان دخولاً للحداثة بشكلٍ ساذج. كان في حقيقته العميقة عملية إرباك وهدمٍ مُمنهجةٍ ومستمرّة لهوية تُونس العربية الإسلامية. كان بورقيبة هو المنفّذ لعملية استقلال يجهلها؛ عمليةٌ هندسها منديس فرانس الذي كان ومن خلال ما يسميه الاستقلال التعاقدي La descolonistation contractuelle قد أنجز عقداً مع تونس أرضى البرلمان الفرنسي أيامها.

كان بيير منديس فرانس واقعاً تحت ضغط البرلمان الفرنسي المُصرِّ على الدفاع عن المصالح التي حصلت عليها فرنسا طيلة 75 سنة من الاستعمار. أتذكّر في حوار خاطفٍ مع الشاعر الفرنسي برنار نويل قال: "إن الفرنكوفونية اغتصابٌ ثقافيٌّ تماماً كالاغتصاب الجنسي، يترك في نفسية الشعوب جروحاً يصعب التئامها". كان برنار نويل مؤيّداً للثورة الجزائرية وقد نشطَ مع حملة الحقائب وأُوقف وسُجِنَ، بمعنى أنه يدري الجرائم اللامرئية للاستعمار.

المفارقة أنَّ فرنسةَ تونس تمت بعد الاستقلال بوتيرة أكبر مما كانت عليه أيام الاستعمار المباشر. محاربةُ انتماء تونس العربي تحت غطاء خلافٍ مع عبد الناصر، محاربة اللغة العربية وغلق "الزيتونة" الجامعة العريقة تحت غطاء الحداثة. أجل "الزيتونة" التي تُعدُّ من أبرز معالم تونس. "الزيتونة" التي استمر التعليم فيها حوالي أربعة عشر قرناً، والتي تخرّج منها أعلامٌ كبارٌ أشهرهم عبد الرحمن ابن خلدون، الذي ولد على مرمى حجر من الجامع الأعظم كما يسميه التوانسة.

تذكّرتُ ملاحظة المستشرق الأميركي برنارد لويس في كتابه "مستقبل الشرق الأوسط"، إذ كتب عن مفارقة اشتداد الكولونيالية الثقافية بعد استقلال الدول: "..... استمرار طغيان ثقافة غربية وازدياد سيطرة اجتماعية واقتصادية متفوقة لدول احتلت مكانة رفيعة ولزمن طويل في المنطقة على الرغم من انتهاء سيطرتها السياسية والعسكرية... التأثير العلمي التكنولوجي والثقافي والمؤسساتي الكبير ما زال مستمراً بل متنامياً...".


بورقيبة "الفقيه" و"الناقد الأدبي"

ولكن في حالة تُونس كانت هناك سياسة راسخةٌ وعملٌ مُمنهج لحداثة كولونيالية خلقت حالة انفصام مرضي، شيزوفرنيا تَجدها لدى غالب النُخب التونسية. كان بورقيبة تجسيداً حيّاً لهذا الانفصام المريع. فـ"رجل العلمانية" يقفُ في الأعياد الدينية خطيباً فوق منابر المساجد التاريخية "الزيتونة" و"القيروان"؛ وهو اللايكي، بمعنى تبنّى خيارَ فصل الدين عن الدولة، ولكنّه أنشأ وزارة الشؤون الدينية وعيّن مُفتي الجمهورية وحدّد موضوعات خُطب الجمعة التي يتلوها الأئمةُ من فوق المنابر، بل الأشنع أن يجلس مجلس الشيخ العارف ليفقّه الناس في دينهم من صيام وصلاة وحجّ.

هذا الازدواج تجده على كلّ الصعد، فالناس على دين ملوكهم. وفي أحد الأيام خطب عن القصّة والأقصوصة، وذكرَ عروسي المطوي، الكاتب ورئيس اتحاد الكتاب، أي الذي يضبطُ الكتّابَ والمثقفين.

وصرت دون وعي مني في بلدٍ آخر، تسرّب إليَّ الإحساس بالغربة بشكل مخاتل. ثمّة تبدلات على جميع الأصعدة: هيئة الناس، كلامهم، سلوكهم. كان الباص يمضي على أوتوستراد تونس - الحمامات في عزّ الظهيرة، تحت شمس قائظه ووسط زحمة السيارات. وهذا الرجل الذي يجلس إلى جانبي في الباص بدا لي من خلال مَظهره ينتمي للطبقة المتوسّطة الفقيرة. 

أحسستُ أنه ينتمي للمزاج العام السائد اليوم في تُونس والمتمثّل في التديّن الشعبي. تذكّرتُ المرأتين اللتين كانتا تجلسان أمامي في قاعة الانتظار بمطار أورلي؛ واحدة تتمتمُ صلاتها وهي جالسةٌ على كرسيها، والثانية غاطسةٌ في قراءة مُصحف صغير بين يديها. كانتا تعبيراً صادقاً عن نبلٍ داخلي.

فوضى قيم وفوضى انتماء تركها نظام حارب الهوية

أوّل ما لفت انتباهي في الرجل ظفرَ خنصره الطويل، وهي موضة كانت شائعة في السبعينيات داخل أوساط متدنّية. وجهٌ جامدٌ بلا تعابير. أوّل ما تبادلنا الكلام قال لي وهو يصف الإنسان المثالي، في إشارة إلى تدهور رجل الشارع في تونس، وذكرَ الآية القرآنية: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة". قرأها شبه محرّفة، فأعدتُ قراءتها دون أن أشير إلى تحريفه. واستمرَّ في كلامه عن الإسلام. ذكرَ اختلاف الآيات التي نزلت في المدينة عن تلك الأخرى التي نزلت في مكة، والتي اصطلحَ عليها بالآيات المدنية والآيات المكيّة وبرز في وعيي تناقضٌ بين ظفرِ خنصره الطويل المقزِّز وكلامه عن القرآن. بدا رأيه حاسماً، واستمر يتحدّث بل يخلط. خاضَ بلغته العامية في الحكمة من نزول الآيات المدنية واختلافها عن الآيات المكية. كانت آراؤه حاسمةً لا تقبل الشك. تذكّرت كتاب "أسباب النزول" للسيوطي. 

هذا الرجل كان، لوقتٍ قريب، يخوض في الخلاف بين فِرق كرة القدم، وها هو الآن يخوض في الخلاف بين الفرق الإسلامية؛ بين السنة والشيعة، وبنفس عقلية كرة القدم. تجنّى على الشيعة، وكفّرهم وقال هم من أتباع عبد الله بن سبأ، وبدت لي رطانة اسم عبد الله بن سبأ على لسانه كما لو كان اسم لاعب كرة من الفريق المقابل. قلتُ له لم تكفّر أي هيئة من علماء "الزيتونة"، أو "القرويين" أو "الأزهر" الشيعةَ. وأضفت أنه لم يقل هذا الكلام الشيخ العلامة طاهر بن عاشور صاحب تفسير "تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد"، المعروف بالتحرير والتنوير. وبدا الرجل كأنّه لم يسمعني، وتمادى قائلاً: "للشيعة قرآن خاصٌّ بهم، لقد أزالوا كثيراً من الآيات القرآنية". 

من مقاهي المدينة القديمة في تونس (Getty)

وتيقّنت أنَّ الرجل على إيمانٍ راسخ بما تقدّمه له الميديا، فهي أكثر صدقيّة وموثوقيّة لديه من الشيخ طاهر بن عاشور. ولم يعد هذا الاسم يعني له شيئاً، بعد أن سفّهه، ورذّله بورقيبة في خُطبه، واتّهمه بالعمالة لفرنسا، خاصّة في قضية التجنيس، مما دفع الشيخ طاهر لأن يطبع تفسيره في القاهرة سنة 1964.

بل رذّل بورقيبة كلّ شيوخ "الزيتونة" ولم يعد لهذا الرجل الذي يجلس إلى جانبي، وللتونسي عامّة، أيّ مرجعيّة دينية يعود إليها، وإنّما هو مخطوفٌ من طرف الميديا ومن طرف ممولي القنوات التلفزيونية التي يؤثثها أناس يأتون بهم من الشوارع، ومن الأجهزة، ويتغذّى على ما يقرأ ويسمع في "فيسبوك" وما يُذاع في المواقع على "يوتيوب"، أو القنوات التلفزيونية التي فبركت سياسيّين وفقهاء وحتّى فلاسفة، كما هو الشأن في الفيلسوف العامي التونسي، الذي يدّعي أنّه أوّل من قرأ القرآن، أي لم يقرأ أحدٌ من قبله القرآن أو فهِمَه سواه. كنا نتحدّث عن السياسي الشعبوي، اليوم صار لدينا المثقّف الشعبوي والفيلسوف الشعبوي.

أمّةٌ بأسرها تتغذّى على العالم الافتراضي وتحوّل عقائدها ومقدّساتها إلى مواضيع تتداول في الميديا مع برامج الطبخ والتعليق الرياضي. تذكّرت الرسام التونسي الذي اقترح إزالة آيات من القرآن لا تتوافق مع آرائه، لأنّه سمع ذلك في إحدى القنوات؛ وهو يريد أن يمارس الرقابة على القرآن كما لو كان مقالة صحفية.

هذه التجاذبات التي تَشغل الوعي التونسي في القنوات وعلى اليوتيوب، إضافة لدورها في تخريب الوعي والهوية، هي حقيقتها تغييب للوعي وإقصائه عن رؤية دراما حياة الناس اليومية، عن رؤية معاناة الفقراء الذين صارت حياتهم شبه مستحيلة وأنا أمرُّ بمحل بيع المواد الغذائية وأرى الجمع المحتشد من النساء والرجال في انتظار أن يفتح المحل لشراء لوازمهم اليومية المفقودة في غالب الأحيان من دقيق السميد والحليب والقهوة، والسكر، والزيت، والكسكسي، وعلب الطماطم، وغيرها من المواد الضرورية الأخرى، وكلّها تباع بمقادير محدودة.

لم تعرف تونس هذا الوضع سوى خلال أيام الحرب العالمية الثانية، عندما بدأ هجوم الحلفاء على الجيش الألماني في تونس.
     

في حلق الوادي

في ضاحية حلق الوادي وفي ذاك المطعم الذي على البحر، اجتمعَ أصدقاء الثمانينيات والتسعينيات، مثل حشاشي نجيب محفوظ في العوامة، ما زالوا يتداولون في العلمانية والدولة الدينية الثيوقراطية واليسار واليمين وكتبٍ كاستنيدا ومسرح بريخت وأنطونين أرتو، وتفوّقهم الفكري والثقافي على بقيّة النخب العربية التي لم تعِ شيئاً.

أحسستُ أنَّ ساعة الزمن لم تتحرّك. استمرَّ نقاشهم نفسه منذ ثلاثين سنة، وقناعاتُهم هي نفسها كلام عن بورقيبة وكيف كان سبّاقاً في فهم الكيان الصهيوني، ولو استمع إليه العرب لتغيّر تاريخهم الحالي. وظللتُ أُصغي لهؤلاء الصحب، ولا أكاد أنبس بكلمة، هم يعيدون هذه الأسطوانة منذ سنوات. ظلّوا مأسورين في حقبة ما بعد الاستقلال، تلك الأيام السعيدة. لم ينتبهوا إلى تكلّسهم الفكري. لم يقرؤوا لحظتهم التاريخيّة الآنية، ولم يدركوا أن مياهاً كثيرةً مرّت تحت الجسور. ظلّوا يعيشون في بلد لم يعد موجوداً سوى في خيالاتهم. مجّدوا بورقيبة بحسٍّ شوفيني تلقاه في كلّ بلاد العرب.

في تلك اللحظة ثمّة لبنانيان يتحدّثان بنوستالجيا عن بلدهما في الستينيات وأنه سويسرا بلاد العرب إلى آخر الأغنية اللبنانية. انبرى وسط الحديث الطبيب النفساني، وهو أولى بالعلاج لما لديه من اضطراب في الهوية، قائلاً: "نحن لسنا عرباً، نحن بربر. العرب جاؤونا مستعمرين". هو لا يدري أنّ مفهوم الاستعمار لم يكن موجوداً في تلك العصور، وأن لنا أصولاً فينيقية ورومانية، والغريب أنَّ هذا الرجل قادمٌ من الجنوب من جرجيس، وينتمي إلى قبيلة عربية صريحة، وأمه لا تتكلّم لا البربرية، ولا الفينيقية، ولا الرومانية. ولكن لبرامج التعليم التي وضعها في سنوات الاستقلال الأولى روجي لابروس نتائجها المروّعة على هذا الجيل. 

ولكن وهم مساطيل في عوامة نجيب محفوظ، التي اسمها مطعم "العصفور الأزرق"، لم ينتبهوا إلى أن هناك جيلاً جديداً، ورؤية نقدية لتجربة وأيديولوجية دولة الاستقلال التي كانت فشلاً ذريعاً وتواصلاً للحقبة الكولونيالية، بل ترسيخاً لها، كما كتب يوماً المستشرق الأميركي برنار لويس عن هذه الظاهرة في البلدان حديثة العهد بالاستقلال، ظاهرة استفحال السياسات الاستعمارية بعد الاستقلال. 

في مواجهة هذه الهجمة الثقافية الكولونيالية، ظهرَ جيلٌ مُتصالح مع ماضيه، ويمضي نحو حداثة أصيلة هي قيد الإنجاز. قدّم قراءة للحقبة الاستعمارية، وحاول إحداث قطيعةٍ مع الثقافة الكولونيالية التي استمرت في تونس بعد الاستقلال لدى نخب فرانكفونية مستلبة. أذكر أيام كنتُ أكتب في جريدة الحياة اللندنية أنّي عثرت حوالي سنة 2006 على مقالٍ للكاتب رفيق عبد السلام عن العلمانية الفرنسية وشيزوفرينية الطفل الفرنسي الذي يولد في عالم منفصم بين كاثوليكية العائلة وعلمانية الدولة، ويستمر معه هذا الانفصام الذي نجد صداه لدى أبناء المستعمرات. بورقيبة مثالٌ صارخ. فهو الفقيه والعلماني في الآن.

لعلَّ كتابات الأمين بوعزيزي، وحبيب بو عجيلة، ونور الدين العلوي، وشهاب بو غدير، وأحمد الغيلوفي أحسن ما يمثّل هذا الخطاب النقدي الجديد.


في متاهات الإدارة

ووجدتُ نفسي ورغماً عني في متاهة أروقة الإدارة التونسية... وما أدراك ما الإدارة التونسية!

الإدارة التونسية اليوم ممكن اختزال نشاطها في كلمات: عُدْ غداً... الموظف الذي ترغبُ في مقابلته هو دائماً في اجتماع. صحبتُ أحد أقاربي إلى وزارة النقل لإجراء معاملة استرجاع رخصة التاكسي، مورد عيشه الوحيد. ولم أدر قبلها خطورة رخصة مزاولة العمل أياً كان...

أجل الرخصة! وما أدراك ما الرخصة! الرخصة قد تدمّر حياتك، قد تُرسلك إلى العيادات النفسية، لا سيّما إن كنتَ تشتغل بعملٍ يستوجب الحصول عليها. عن طريق الرخصة تصير حياتك خاضعة لمزاج الموظّف المكلّف بمنحك هذه الرخصة التي ما أنزل الله بها من سلطان. وعليكَ أن تنتظر عودة الموظّف إذا ذهب لزيارة الوالدة المقدّسة في الريف، وقد يتعطّل هناك بعض الوقت. وإذا ما عاد عليكَ أن تنتظر حتى تدخل عليه. فإذا ما حظيتَ بعد تردّدٍ وانتظار طويلٍ بالدخول عليه في مكتبه، لا بدَّ من أن تسألَ أوّلاً عن حالة الوالدة قبل الشروع في الموضوع الذي جئت من أجله. ويشكو أنّه هو البار بوالديه لم يجد الوقتَ لكثرة العمل للجلوس مع والدته التي امتدَّ بها العمر وهو يشعر بالحزن وبتأنيب الضمير لأنّه لم يبق وقتاً أطول إلى جوار أمه. وعليك أن تشاركه حزنه، فتشخص ببصرك للحظة في الفراغ وأنتَ صامتٌ أمامه، تعبيراً عن حزنك. فالملفات التي بين يديه كثيرةٌ، وهو كثيراً ما يعود بها إلى البيت ليسهر على إتمامها. فكيف يبقى مع أمه في الريف وقتاً أطول!

وتظاهرتُ أنا أيضاً بالحزن ولكنّي كنتُ أفكر وأسأل نفسي لماذا امتدَّ العمر بهذه المرأة حتّى أنجبت هذا المخلوق الذي أمامي، حبيب أمه، والذي لا يكفُّ عن الكذب، والذي يقطع أرزاقاً ويهدمُ بيوتاً دون أن يرفّ له جفن. 

استمرَّ البحث عن رخصة التاكسي المجمّدة في أضابير وزارة النقل، بين ذهابٍ وإياب، بين الوزارة والولاية وتسويف أربع سنوات؛ أربع سنوات من الوعود الكاذبة انتهت ليس بتحريك الرخصة المجمّدة التي لدى المواطن الغلبان، ولكن بافتكاكها وبسحبها منه بشكلٍ مطلق. 

تذكّرتُ قبل ذلك بسنوات أنّي لقيت والي تونس لنفس الموضوع. هو أيضاً مكلّفٌ بمنحِ رخص التاكسي. رجلٌ طويل على سمرة يرتدي طقماً يعود إلى موضة الستينيات، ذو قسماتٍ حادة وسحنة غاضبة لا أدري لماذا. ربّما اعتقد، حسبَ ذهنيّته الريفية، أنَّ ذلك من إكسسوارات السلطة. ذكّرني بشخص كنتُ أراه في حيٍّ شعبيٍّ هو حفرة الشيخ عمر، وربّما كان هو الذي كنتُ أراه هناك. الله مبدّل الأحوال. كان يتكلّم بحدّة للعبد الفقير، وبلا سبب. وقلتُ أحدّث نفسي يبدو أنّ هذا الرجل لم يبتسم منذ خمس عشرة سنة.

وبقيتُ كامل الوقت أهيم في شوارع مدينة لم أعد أعرفها. سرت أياماً بلا هدف وأنا أفكّر في أن التحولات الاجتماعية والثقافية المتسارعة في تونس، أفكّر في الناس الذين قابلتهم طيلة هذه الأيام الفارطة. بدوا لي أناساً قد اقتلعوا من عالمهم، اختفى ذاك التواصل بين الفرد وتاريخه الحديث الذي تحوّل إلى يباب. ولو سألت أحد هؤلاء ماذا وقع في سنة 1789 لأجابك ببداهة الثورة الفرنسية. ولكن لو سألته من كان يحكم تونس في تلك السنوات وما بعدها لعجز عن الإجابة. أتحدّث هنا عن النخب المتعلّمة...

حتى إنَّ الناس نسوا أن اسم تونس هو للمدينة فقط، وأنَّ "إفريقية" هو الاسم الذي أطلقه عربُ الفتح على البلاد التونسية تعريباً للاسم اللاتيني "أفريكا" من يوم كانت ولاية عباسية على عهد بني الأغلب التميميّين الذين رسّخ حكمهم في قيروان عُقبة، ثم امتدّ فيما بعد ليشمل جنوب إيطاليا وجزر غرب المتوسّط والمغرب الأوسط الذي يسمّى اليوم الجزائر.

كانت هذه الحقبة هي الوحيدة التي امتدّت فيها تونس خارج حدودها؛ فقد كانت دائماً أرض استقبال وجذب للقوى البحرية. واستمرّت هذه التسمية أي أفريقيا إلى أواسط القرن العشرين، فكان شيخ مؤرخي تونس، حسن حسني عبد الوهاب آخر من ظلَّ يطلق على تونس اسم "إفريقية"، فيقول "إفريقية" التونسية... 

ولكن ذلك زمنٌ نُسي كما نُسيت أشياءٌ كثيرة في بلد تعرّض على امتداد أكثر من نصف قرن لمحو منظّم للذاكرة. كما لو أن تونس ظهرت للوجود مع ظهور بورقيبة. حتّى إن الناس يقولون وبكل بداهة بورقيبة هو مؤسّس الدولة التونسية، كأنّ تونس كانت قبل بورقيبة أرضاً بلا دولة. وهذا يذكّرني بخرافة بن غوريون عن فلسطين من أنّها "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

أمّا تونس اليوم فهي أقرب لتوصيف أحد ولاتها القدامى وقد لقي ضنكاً وعناءً كثيراً من التونسيين فأنشد:

لعمرك ما ألفيت تونس كاسمها          ولكنّني ألفيتها وهي توحش

أجل تونس اليوم مُوحشة، فوضى عارمة، فوضى قيم وفوضى هويّة وفوضى انتماء تركها نظام حارب الهوية، غيّب الوعي لأكثر من نصف قرن. نظامٌ سحق المواطن. تحوّل التونسي إلّا ما رحم ربّك إلى شيء لا يشبه شيئاً. وبدأت حقبة من الوضع السريالي التراجيدي.


كما في الحلم

وأنا أغادر تونس، رأيتني في ميزانين سدّة قهوة القصر، ومن وراء الزجاج رأيتُ العمال وهم يزيلون السور الحديدي لمحطة قطار تونس - حلق الوادي - المرسى، التي كانت أمام "قهوة باريس"، وضجيج الحفّارات الكهربائية ورجالاً مختلطين كما في الحلم. وأنا في الترامواي أقف فيما يشبه الفيراندا التي في آخر تلك العربات الصيفية، والترامواي الأبيض يعبر ساحة باب سويقة، وأنا أمسك بسياج الحديد المشبك، أشاهد مربّعات الفايونس البيضاء على الجدار في صدر المقهى، وقد كُتب عليها قهوة بوندان... وصندوق الموسيقى الكهربائي بزجاجه ومصابيحه الحمراء والزرقاء والصفراء التي تشتعل في بوابة قهوة "الشانزيليزي" بأرائكها الجلدية البنية، و"مدام ناحوم" تقف بفستانها الصيفي الأبيض وأحمر الشفاه وسط لوحات مليئة بالزهور الزرقاء والحمراء لبوشارل وجماعة "مدرسة تونس"، زهور ماني، وموني، وماتيس... والباخرة الإيطالية السوداء والبيضاء بمدخنتها الكبيرة المائلة إلى خلف تحفّها طيورها وهي تعبر "الكنال" إلى تونس.


* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام



إقرأ المزيد