كيف سنكتب اسم الحرية؟
العربي الجديد -

تدمير تمثال باسل الأسد بعد سقوط نظام البعث في سورية، 4 كانون الثاني/ يناير 2025 (Getty)

لم يحدث في التاريخ المعاصر للسوريّين أن نالوا الحرية، كما يحدث لهم اليوم، فجيلنا، نحن الذين كنّا صغارا حين استولى حزب البعث على السلطة، لم يكن يعرف معنى الحرية، بالمفهوم السياسي، أو الحياتي، أو الفكري. كانت حريّتنا تتجلّى في أن يسمح لنا الوالدان بالّلعب الحرّ، أو التنزّه، أو السباحة في النهر أو البحر أو المستنقعات أو البرك التي تشكّلها أمطار الشتاء، بينما أدركت الشيخوخةُ الجيل الذي يكبُرنا قليلاً، وكان قد استمتع لبضع سنواتٍ بحريةٍ محدودة في الزمن الفاصل بين سقوط ديكتاتورية أديب الشيشكلي 1954، وقيام الوحدة السورية المصرية 1958: انتخاباتٌ حرّةٌ، وبرلمان متعدّد الأصوات، وصحافة سياسيّة وأدبية وفكرية.

ومن المفارقات في حياتنا أنّنا بقينا طوال السنوات الستين السوداء، نتغنّى بتلك الحقبة العسلية القصيرة في حياة البلاد. بضع سنواتٍ فقط شكّلت فارقاً. ثمّة من يُضيف أنّها كانت الحقبة التي نشأت فيها الصناعات السورية المعروفة، عالميّاً، مثل النسيج والزجاج، وأنّها كانت بمعنى ما بداية نشوء بورجوازية وطنيّة يمكن أن تتمكّن من إرساء أساس متين لدولة مستقلّة، تدخل العالم الحديث من أبوابه كلّها.  

بينما لا يعرفُ الجيل الذي ولد في زمن البعث، منذ عام 1963 حتّى اليوم، أي معنى للحرية. كانت الحرية تربضُ في شعار الحزب، كما لو كانت قيداً، أو أغلالاً، تشير إلى الاحتمال الراجح الذي عبث ببلادنا، وانقلب إلى خنجرٍ قتلٍ لكلِّ من يطالب بأية حرية. لا حرية للتنظيم، لا حرية للتعبير، لا حرية للكلام، لا حرية للصحافة، لا حرية للأحزاب، لا حرية للتجمّعات، لا وجود إلا لحزب واحدٍ قائد يمنع الأرزاق أيضاً فوق مصادرة الحريات، ويهبها بحسب قرب السوري أو بعده، عن جهازه التنظيمي الذي راح يتضخّم حتى صار غولا أو ثقباً أسود يبتلع كل شيء في بلادنا.

أكثر المواقف شجاعة هو الحفاظ على الحرية

حريته في أن يضطهد ويقهر السوريين. حريّته في أن ينهب أموالهم، ويعتقلهم، ويقتلهم. حريّته في أن يلاحق أقرباء وأصدقاء وأصحاب من يعارضه، بعد نفيه من البلاد. هذه هي حريّة البعث، التي انتقلت إلى وراثة آل الأسد.   

كنت أبحثُ في مكتبتي وأقرأ الكتبَ التي تتحدث عن الحرية، من ستيوارت مل إلى إيزايا برلين إلى زكي نجيب محمود وتشومسكي وقصيدة بول إيلوار: كتبتُ اسمك، وغيرهم. يشبه الأمر حال المتسوّلين الواقفين على أبواب المآدب. ثمّة من يستمع بالمأدبة إذاً، وثمّة من يشتهيها. 

الحقيقة التي أرى أنَّ علينا عدم السكوت عنها هي أنّنا جميعاً شاركنا في صناعة القيود. لقد رضخنا طويلاً وكثيراً لحكم الطغاة، بينما كانوا يجدلون الحبال لتقييدنا. رضينا أن يكمِّموا أفواهنا بحجّة أنّهم يحرصون عليها من أجل أن نستطيع تناول الطعام. قبلنا أن يمنعونا من الكلام ومن الغناء بذريعة أنَّ السكوت من ذهب. ويمكنُ أن تزوّر الحقائق الفلسفية وينصح بفهم الضرورات لتقييد الحريات. وهكذا جعلوا من السوري شريكاً لهم في الرضا بانتزاع حريته. ووضعوا قوانينهم وزعموا أنَّ حريّتنا تكمن في طاعتها، عندما كانوا ينتهكونها هم أنفسهم.     

كيف سنكتب اسم حريتنا اليوم؟ أكثر المواقف شجاعة هو الحفاظ على الحرية. أكثرها نفعا هو احترام حرية الآخر، وأشدّها قوةً هو أن نؤسِّس معاً لحريات عامّة تستطيع الثبات والمقاومة.


* روائي من سورية



إقرأ المزيد