"تهريب" المسرح خارج الرقابة البعثية.. أقبية صارت فضاءات عرض بديلة
العربي الجديد -

أوس وفائي وريم الدبيات في مسرحية "درس قاسي" لمُخرجها سمير عثمان الباش

كان على أعضاء "تجمّع هيك الفنّي" أن يحسموا أمرهم في ذلك اليوم من عام 2021، وأن يقوموا بتهريب عرضهم المسرحي إلى داخل بيت في متاهة الحارات الدمشقية. هناك اجتمعت ثلاث ممثّلات بالمُخرجة فرح الدبيات، التي بادرت بدورها إلى تحذير الجمهور من فتح أبواب البيت لأيّ شخص وتحت أيّ ظرف كان. حمل العرض عنوان "مسرحية"، وشكّل تواطؤاً بين الجمهور والقائمين عليه، قبل أن يكون بمثابة بيان احتجاج على تعذيب النساء المعتقلات واغتصابهن في سجون النظام.

مثل هذه التجارب كان عليها أن تنمو باطّراد خارج أسوار المؤسّسات الرسمية، وبعيداً عن أعين العسس الثقافي. سنوات الثورة السورية الطويلة أسهمت في إنضاج تلك الحركة السرّية لمسرحيّين ومسرحيّات رفضوا الخضوع للوائح وقائمة ممنوعات "مديرية المسارح والموسيقى"، فشكّلوا اللوبي الخاصّ بهم، وتنادوا مرّة تلو الأُخرى لتحقيق تجاربهم في بيوت قديمة ومعاصر زيتون وأقبية وفنادق وأنفاق ومعامل وحدائق عامّة.

أحد أبرز تلك التجارب أنجزها المُخرج أسامة غنم مع فرقة "مختبر دمشق المسرحي"، عبر سلسلة من العروض التي بدأها عام 2010 مع عرض "حدث ذلك غداً"، والذي قُدّم وقتها داخل محمصة مهجورة في حي مئذنة الشحم بالبلدة القديمة، ولعب بطولة العرض كلٌّ من أمل عمران ومحمد آل رشي. في 2013 عاود غنم الكرّة بمسرحية "العودة إلى البيت" عن نصّ لهارولد بنتر. العنف وانهيار القيم العائلية في ظلّ سطوة النظام القمعي تجلّى في العرض الذي قُدِّم حينها في قبو أحد فنادق العاصمة السورية.

حركةٌ مسرحية "سرّية" أنضجتها سنوات الثورة

كان على الجمهور أن يتجمّع في نقطة معيّنة، وبعدها يقوم شابّ وصبية من الفريق الإداري للمختبر بدور دليل صامت إلى مكان الفرجة. كلّ شيء كان يتمّ بهدوء وبلا جلبة، وكان المتفرّجون يأخذون أماكنهم في مساحة ضيّقة تكاد تتلاقى فيها وجوههم مع وجوه الممثّلين.

كانت أنفاس الجمهور والمتفرّجين تُشكّل دفئاً خاصّاً في الأمسيات الباردة، فالأماكن البديلة للريبرتوار السوري لم تنشأ فقط بغية الخروج من مسارح "العلبة الإيطالية"، بل كانت طبيعة هذه التجارب تفرض نوعاً من الانتقائية لأفراد الجمهور المُستهدف، والابتعاد ما أمكن عن أعين الاستخبارات والرقابة، إذ دأبت تلك العروض على خرق المحظور في المسارح الرسمية، وإتاحة النقاش حول فظائع السلطة الحاكمة وأساليبها الوحشية.

تهريب العروض المسرحية لم يكن جديداً، فقد بدأ قبل سنوات من اندلاع الثورة السورية، وآثر بعض المسرحيّين الابتعاد والتخفّي عن أعين مخابرات الأسد وكتبة التقارير الأمنية، ففضّلوا الأماكن الجانبية والهامشية لتقديم عروضهم، كما كان الحال مع تجمع "كون" للمُخرج أسامة حلال، والذي قدّم عرضه "جثّة على الرصيف" في نفق باب شرقي في دمشق عام 2007، موظّفاً المكان لصالح حكاية العرض، تماماً كما فعل المُخرج وليد قوتلي في مسرحيته "بانتظار البرابرة" (2010)، إذ قُدّمت هذه التجربة في ساحة صغيرة بحي المزّة الدمشقي، واعتمد قوتلي في العرض على مسرحة نصّ شاعر الإسكندرية قسطنطين كافافيس.

تباعاً، صارت العروض المهرّبة تقليداً عند العديد من المسرحيّين السوريين، فقدمت آنا عكاش عبر مشروعها "مراية" أكثر من عرض في هذا السياق في أحد الأديرة، ومثلها فعلت رنا كرم عام 2018 في عرضها الحركي "جفون"، الذي قدّمته في مقرّ "النادي العربي" بدمشق. تجربة حاكت فيها ما حقّقته الفنّانة نورا مراد في تجمع "ليش" الذي فتح الأبواب أمام هذا النوع من العروض؛ إذ اقترحت مراد أكثر من تجربة في هذا السياق، ومنها "ألف مبروك" الذي عُرض عام 2009 في سراديب قلعة دمشق، و"إذا ماتوا انتبهوا" الذي عُرض عام 2010 في قبو "غاليري مصطفى علي" في حارة اليهود الدمشقية.

تهريب العروض المسرحية واصل مسيرته بحذر شديد، لا سيما بعد اعتقال الفنّان زكي كورديللو وابنه في الأسابيع الأُولى من الثورة (لا يزال مصيرهما مجهولاً إلى اليوم)، إذ قدّم المُخرج سامر عمران العديد من التجارب التي كان قد بدأها عام 2008 بعرض "المهاجران"، الذي قدّمه في ملجأ حربي بحيّ القزّاز في دمشق. شكل هذا العرض صدمة للكثيرين حينها، لناحية جرأته في تناول واقع السوريّين في المنفى؛ فقد اقترح معالجة فنيّة مغايرة للسائد في عروض المسارح القومية.

هذه التجربة حفّزت الكثيرين على محاكاتها، ولعلّ أبرز تلك المحاولات تجلّت في عرض "نبوءة"، الذي قُدّم في حمّام الشام الأثري، ولعبت بطولته الممثّلة ربى الحجلي، عن نصّ "ملحمة السراب" لسعد الله ونوس، إضافةً إلى تجارب أشرف عليها وأخرجها الفنّان الحمصي سمير عثمان الباش ضمن مشروع "مدرسة الفنّ المسرحي".

تأسّست هذه "الأكاديمية البديلة" عام 2009 في أحد الأبنية المتاخمة لمحطّة الحجاز في دمشق ثمّ انتلقت إلى ريف دمشق. وخلال هذه الفترة، قدّمت العشرات من العروض بهدوء وصمت فوق خشبة في أحد الأقبية بمدينة جرمانا (ريف دمشق)؛ حيث كانت تُوجَّه من هناك دعوات شخصية لجمهور لم يكن يتجاوز عدده ثلاثين متفرّجاً.

من التجارب البارزة في هذا السياق مسرحية "درس قاسي" (2019)، التي تعرّض فيها الباش لبنية العنف السادي لدى النظام، فعبر تمرين نفسي بين طالبة وأستاذ جامعي وممثّلة، كشف الأكاديمي السوري أثر طاعة الأوامر على منفّذي المجازر والتعذيب في المعتقلات، تماماً كما فعل في عرضه "أكاديمية الضحك" (2022) الذي تناول فيه أساليب الرقابة المسبقة على النصوص في دوائر المخابرات؛ إذ شرّح عبر أسلوب ساخر، بنية هذه الرقابة وعماء موظفيها وبلاهتهم، وصولاً إلى تفكيك عقلية الرقيب الأسدي، ومحاولة هذا الأخير تدجين الكاتب وترويضه.


* كاتب وصحافي سوري



إقرأ المزيد