العربي الجديد - 12/22/2024 3:42:00 AM - GMT (+3 )
إتيل عدنان خلال أمسية في "أكاديمية الثقافة" ببرلين، 2012 (Getty)
في هذا الشهر، مرّت ثلاث سنوات على غياب إيتل عدنان، التي ومن لحظة لقيتُها أوّل مرّة في تونس ذات حزيران/ يونيو من سنة بعيدةٍ بعيدة، وأنا لم أكفّ عن قراءتها والتحاور معها، ونقل شعرها إلى العربية. كنّا في "قهوة الأنترنسيونال" وكانت معنا حياة، وسيمون فتّال، وكان ضوء أوّل الصيف يغمر الشارع وأشجار الجيكرندا المزهرة. كانت تونس أيّامها ما تزال محتفظة بملمحها المتوسّطي الإيطالي.
جاءت إيتل للمشاركة في "بينالي تونس العربي" الأوّل بكتابها الحروفي الذي على شكل أكورديون. حضر التشكيليون العرب من كلّ الأقطار، من سورية وفلسطين وليبيا والمغرب، ومن المنافي في لندن وباريس وروما. حضر ضياء العزاوي بكاميراه السوداء الضخمة الشبيهة بسلاح رشّاش يهجم بها على العالم. رأيته يصوّر أبواب بيوت مدينة تونس القديمة، ينحني، يثبّت عدسته على تفاصيل الزخارف التي صنعها الفنّان الشعبي المجهول.
وملأ الرسّامون العرب أجواء تونس بصخبهم السعيد. أسأل نفسي دائماً: لماذا أجد الأدباء في الغالب الأعمّ شخصيات باعثة على السأم، نقيض الرسّامين والمسرحيّين الذين هُم أكثر حيوية وإحساساً نتشوياً بمباهج العالم، بضوء العالم؟ لعلّه تعاملهم المباشر مع المادّة من ألوان وصلصال وحجر وملابس ركحية الذي يجعلهم على تماس دائم مع المادة، ويقيهم في الآن من جنوح اللغة نحو البلاغة الخاوية، والتعقّد، وضياع معنى اللفظ بين الكاتب والمتلقّي. هُم الأقرب إلى إنسان نيتشه.
كتبت قبل أربعين سنة كما لو أنّها تصف ما نعيشه اليوم
وإيتل عدنان تبدو تجسيداً لهذا الإنسان كما عرّفه نيتشه. وهي تعيش وتكتب وترسم كما لو أنّها تلعب؛ وهي مثل نيتشه تعتبر الحياة قيمة القيم، وأنّ المعرفة الحقّة لا تأتي من بطون الكتب، وإنّما تنبثق من قلب الحياة والتجربة.
كتب نيتشه كما لو أنّه كان يصف إيتل عدنان: "دأبُنا هو أن نفكّر ونحن في الهواء الطلق، ونحن نسير ونقفز، ونتسلّق ونرقص، والأفضل أن يكون فوق الجبال المتوحّدة أو في أقاصي الشواطئ، هناك حيث تصير الدروب نفسها تأمُّلاً". إيتل تعيش في هواء نيتشه الطلق، في قلب العالم. وإيتل هي الحياة محتفية بالحياة، ترسم وتكتب وتسافر وتمضي في دروب الإبداع كلّها بتلقائية. رأيتها ترسم مباشرةً كما تتكلّم بتلقائيتها الفريدة.
زرتُها آخر صيف، في قرية إيركي في منطقة البروتاني الفرنسية. كانت تجلس متعبة في تلك الشرفة الكبيرة أمام البحر المنحسر في حركة جزر ممتدّة، والطيور سارحة في شاطئه المقفر، باحثة عن غذائها من الدود، وفي البعيد الأزرق الكبير الذي يمضي إلى نهاية العالم.
البحر.. البحر... أجل البحر الذي صحبها في حياتها وتغلغل في أعماقها وفي طوايا شعرها كرمز للحركة، للمطلق والموت. كان ديوانها الأوّل "كتاب البحر". واستمرّ البحر حاضراً حتى وهي في باريس. أفتح الآن كتابها "باريس عندما تتعرّى"، وبدا لي الأمر كما لو أنّها صدفة كارل يونغ التزامنية Synchronicité؛ إذ أقرأ: "عادةً يكون البحر قبالتي في معظم الأحيان، فهو مفتوح على كلا الجانبين، يمتدّ حتى الأفق. كان الأفق بيت طفولتي". وعاشت إيتل أيامها الأخيرة أمام البحر.
كان البحر جزءاً من إحساسها الكوني الشامل بالطبيعة، بالأشجار والزهور، والليل، والسحب، والشمس، والنجوم والرياح والقمر... إحساسٌ هو نوع من وحدة الوجود الشعرية، فالعالم لديها قصيدة كبيرة.
جاءت هذه الشاعرة من مناخ استثناء. وجدت نفسها من الأوّل في التعدّد اللغوي والروحي. فلغة الأمّ لديها اليونانية ولغة الأب العربية والتركية، ولغة التعليم فرنسية. لذا ذهبت إلى الإنكليزية لتتحرّر من هيمنة هذه اللغات، ومن العادات اللغوية المكتسبة في الطفولة والشباب. ذهبت إلى الإنكليزية وكتبت بها أهمّ إبداعاتها الشعرية/ الفلسفية.
ينابيعها الشعرية القصية هي أيضاً متعدّدة. بودلير ولوتريامون ورامبو حتى بول فاليري، والرومانسية الألمانية وتأثيرات نوفاليس وهلدرلين، وراينر ماريا ريلكة، والشعراء الروس، والفلاسفة ما قبل السقراطيّين، وأقوال المتصوّفة المسلمين، والكتابات الدادائية والسريالية، ونصوص الهنود الحمر المقدّسة. الهنود الحمر الذين أحبّتهم وكتبت عنهم، فالهندي الأحمر يتماهى لديها مع التراجيديا الفلسطينية.
يقع نصّ إيتل عدنان في قلب إشكالية الكتابة الحديثة.
كلُّ هذا منحها تغايراً جذرياً مع شعراء جيلها العرب... اشتركت معهم في اللحظة التاريخية وتغايرت معهم في قراءة هذه اللحظة، وفي الأبجدية الشعرية... كانت لحظتها هي فلسطين. كانت إيتل متجذّرة في لحظتها التاريخية، في الزمن العربي، وكانت فلسطين جرحها الأبدي الذي حضر في قصيدتها الملحمية "يبوس"، وفي كتابها النبوئي "قيامة عربية" وقصيدتها المطوّلة "جنين". كانت قبل أربعين سنة كما لو أنّها تصف المحرقة المهولة التي يعيشها الفلسطيني والعربي اليوم.
كتبت في قصيدة "يبوس":
"فلسطين أيّتها الغريقة
يجب أن تُصغي إلى أنين وديانك في الليل
حيث للموتى دموعٌ أيضاً
ستشربين جرعة كبيرة من الدماء".
وعن الصهاينة الذين تسمّيهم مزوّري التاريخ تكتب:
"غزانا مزوّرو التاريخ ولصوص السراديب الأرضية
ولدينا فاسدون أحياء متربّعون في مجالسنا
أكثر أذى من أفاعي البحر
التي التفّ بها السندباد".
وتكتب في قصيدتها "قطار إكسبرس بيروت الجحيم":
"الحكّام خادعون: حبال سرّتهم أسلاك هاتفية تربطهم
بواشنطن وبفلاديفوستوك...".
ثلاثة دواوين عن فلسطين هي "يبوس" و"قيامة عربية" و"جنين"؛ صدرت ترجمتها الفرنسية آخر 2023 ضمن المجلّد الأوّل من أعمالها الشعرية. وكتب إيف ميشو، مترجم ومحرّر الكتاب لدى "غاليمار": "إيتل من أكبر شعراء العالم آخر القرن العشرين وأوّل القرن الواحد والعشرين".
واليوم غابت إيتل بعد أن أيقظت كلماتُها فلسطين في ضمير العالم.
* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام
إقرأ المزيد