العربي الجديد - 12/21/2024 11:02:22 AM - GMT (+3 )
قصيدة النثر هي قصيدةٌ تستلهم أصوات الحياة والأصوات التي لا صوت لها والأصوات المقصاة، كما تستلهم تفاصيل المُعاش والعادي بشقَّيه اليومي والتاريخي والمستقبلي، لتكتب به شعراً جديداً، تنسكب موسيقاه من إيقاع الهمس ومن صبابات السكوت، من الصراخات المكتومة ومن العبرات المتكسّرة في الحناجر، من بحور الشغب الكامن والمتواري والمقموع في اللغة، ومن شرارات التمرُّد وطاقات التجدُّد في اللغة وفي الموروث الشفهي والمكتوب، وفي الطبيعة ممّا لم تمسّه حواس بعد.
قصيدة النثر، شكلاً وموضوعاً، هي قصيدة دهشة المهمّش والمهمل والخفيّ والمعتاد. وهي رهجة المنسي والمفروغ منه والمبعد. وأهمّ ميزات قصيدة النثر بهذا المعنى هو ما تملكه ويملكه شعراؤها من احتمالات بكر لاكتشاف الطاقات التي لم تُكتشف بعد في اللغة وفي شاعرية الكون، ولتجريب توظيف إيقاعات شعرية ظلّت معطَّلة في الوجود ليس من يصغي إليها إلى أن جاءت قصيدة النثر، فقامت بتجريب الاشتباك مع موسيقى الموجودات التي كانت في حُكم الجماد من صوت تسبيح الشجر، إلى صوت تفلّق الصخر ونشيج المطر، إلى صوت تجرُّح الأجنحة، فجددت بأوركسترا هذه الأصوات اللامسموعة حساسات الإصغاء في اللغة ودوزنتها إيقاعاً شعرياً يُميّز قصيدة النثر كشكل شعري مختلف عمّا سبقها من أشكال شعرية، إلّا أنّه يتبارى معها في مدّ ديوان الشعر العربي بدماء شعرية فتيّة.
وقصيدة النثر، كما هو معروف، لها روّادها في الغرب، من والت ويتمان إلى ت. س. إليوت وبودلير، ولها روّادها في العالم العربي من بعض منطلقات أدب المهجر إلى أمين الريحاني وتبلورها داخل وخارج مدرسة "شعر" ومن بعض روّادها تاريخياً ومريديها منذ السبعينات إلى اليوم، محمد الماغوط وسنية صالح وفؤاد رفقة وأمل جراح وإتيل عدنان ونوري الجرّاح ولينا الطيبي وزليخة أبو ريشة وحسن عبد الله وعباس بيضون وجمانا حدّاد ولوركا سبيتي وماجدة داغر من لبنان وبلاد الشام عموماً، ورفعت سلام وفاطمة قنديل وأحمد الشهاوي من مصر، وبلند الحيدري وسركون بولص من العراق، وخليجياً وسعودياً بدأت ريادة قصيدة النثر بديوان "إلى متى يختطفونك ليلة العرس"، وهناك عدد من تجارب قصيدة النثر المتورّدة في المنطقة من أسمائها الحاضرة في المشهد الراهن خليجياً وسعودياً، والتي لا تزال حاضرة: سيف الرحبي وظبية خميس ونجوم الغانم وميسون صقر وعبد الله سفر وأحمد الملا ومحمد خضر ومحمد الحرز وهدى الغفق وهدى ياسر ومحمد التركي. هذا بالإضافة إلى أسماء لا تحصى في المشرق والمغرب العربيَّين ممّن أسّست لقصيدة النثر، وأُخرى تتبرّع كلّ يوم بأصوات أصيلة مجدّدة. وإن كان لا يتّسع المقال لذكرها جميعاً، فإنّه لا يصعب متابعة نتاجاتها المتاحة اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعية المتعدّدة بشكل فردي أو بأشكال جماعية، كمنتديات قصيدة النثر.
بحاجة إلى تجديد حتى لا تتأرجح بين الركود والتكرار
وجديرٌ بالذِّكر أنّ عدداً من روّاد قصيدة التفعيلة كتبوا قصيدة النثر ومنهم أدونيس ومحمود درويش وقاسم حدّاد. إلّا أنّ ما تقدّم ليس إلّا ومضة من الألعاب النارية التي أشعلتها قصيدة النثر وتُشعلها أينما حلّت أو ارتحلت بالمعنيَين الإيجابي والسلبي. ومن دون أن أدخل في تفاصيل المدّ والجزر مما عاشته قصيدة النثر في عمرها القصير مقارنةً بالعمر التاريخي للشعر، والطريقة التي قوبلت به هذه القصيدة في الأوساط الثقافية العربية، لا بدّ أن أشير، ولو إشارة خاطفة، إلى تلك الألعاب النارية التي شبتها قصيدة النثر زهواً بتجديدها، أو التي شُبت عليها عقاباً لها على نفس السبب؛ أي جرأة تجديدها. فبينما اشعلت قصيدة النثر جذوة إيجابية من الجدل المنتج ليس حول هويتها الشعرية، بل حول المساحات التي يمكن أن تضيفها إلى فضاء الشعر المتعارف عليه تاريخياً وحول قدرتها على تحرير مساحات كانت محتكرة للأنماط التقليدية من أشكال الشعر ومضامينه، أُشعلت حولها وعليها عددٌ من الألعاب النارية السلبية التي لم تكن ألعاباً البتّة، بل كانت نوعاً من النيران الحارقة لها ولأيدي روّادها وكتّابها من قبل من يمكن تسميتهم بحرّاس فضيلة التفضيل لما تقدّم على ما تأخّر وما سبق على ما استجدّ وما مضى على الآتي، المحسوبين على سلطة القائم والمساندين لسياسة ليس بالإمكان تقديم أفضل ممّا كان. فكان التشكيك في الهوية الشعرية لقصيدة النثر واختلاق أوزار لها أو تأثيمها في حقّ اللغة العربية وإرثها اللغوي شعرياً الأشدَّ تحامُلاً في حقّ قصيدة النثر الشعري في الحياة والتعايش مع أطيف الشعر الأُخرى.
ومع ذلك، فقد نجحت قصيدة النثر اليوم في أن تطرح تجاربها المتنوّعة عبر الوطن العربي من الماء إلى الماء، وعلى مختلف ساحاته الثقافية، لدرجة أصبح معها طيفٌ عريض من الشعراء الشباب يكاد لا يكتب إلّا قصيدة النثر، وبعضهم يزاوجون في إنتاجهم الشعري فيكتبون القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، بالإضافة إلى قصيدة النثر.
هذا المقال ليس مرافعة عن قصيدة النثر، ولكنّه فرع صغير من انشغالي العميق والشاسع واليومي بقصيدة النثر ككاتبة مؤسِّسة لقصيدة النثر في بلدي، وأيضاً كقارئة متابعة لتجاربها الشبابية اليوم، وكباحثة كلفة بطريق الحرير والشوك في تطوّر قصيدة النثر عربياً وعالمياً.
يبقى سؤال مقلق أخير ممّا يمكن أن أضيفه لهذا المقال المستلّ من هواجس عمل أوسع في قصيدة النثر؛ وهو سؤال ضرورة نقد قصيدة النثر لنفسها بنفسها وبعشّاقها وشعراءها ونقّادها نقداً خلّاقاً لئلا تتحوّل إلى حالة مستتبّة بما قد يجرّه ذلك من تأرجح بين الركود والتكرار. وهو ضمنياً سؤال لتجاوز الأشكال المنجزة من تجاربها والعمل على مضامين وأشكال جديدة من قصيدة النثر لم تكن في وارد الشعر من قبل. وهذا يعني أنّه رغم كلّ التحدّيات المتنوّعة التي عاشتها قصيدة النثر من الاجتماعي إلى اللغوي والثقافي، فإنّ حياتها ككلّ أطياف الشعر الشفيفة الشرسة في ألّا تكفّ عن تحدّي نفسها... ذلك التحدّي الإبداعي الذي هو أقسى وأعذب تحدّيات الشعر.
* شاعرة وكاتبة وأكاديمية من السعودية
إقرأ المزيد