رحلوا وهذه بيوتهم: أبناء وبنات مبدعين لبنانيين يتحدّثون (2/2)
العربي الجديد -

صورة خصّت بها الشاعرة ندى أُنسي الحاج "العربي الجديد" لمكتب والدها الراحل في شقّته ببيروت

عادةً ما يأخذ الحديث عن إرث الكُتّاب والفنّانين الراحلين طابعاً معنوياً، لكن ماذا عن البيوت ومقتنياتها؟ ما مصيرُها؟ وكيف هي علاقة الورثة معها؟ ضمن هذا التساؤل، تلتقي "العربي الجديد" بمجموعة من ورَثة مبدعين لبنانيين، للحديث عن كثب حول مصائر بيوت مبدعينا الراحلين، انطلاقاً من مشهد الدمار الذي خلّفه العدوان الصهيوني الأخير على بيوت اللبنانيين عموماً.



أُنسي الحاج (1937 - 2014)... شقّة صغيرة تفيض كتباً وذكريات

تتحدّث الشاعرة ندى أُنسي الحاج لـ"العربي الجديد"، عن المنزل الذي قضى فيه والدها الشاعر المعروف حياته، فتقول: "يقع البيت في منطقة الأشرفية بجوار 'مدرسة راهبات المحبّة' وقد استأجره والدي منذ عام 1959 حتى رحيله في شهر شباط/ فبراير 2014. هو ليس بيت طفولته بل طفولتنا أنا وأخي لويس. شقّة صغيرة كانت تفيض كتباً ولوحات تشكيلية وذكريات، لم يتركها أبداً حتى في أيام الحروب القاسية. وكانت علاقته بها عضوية يكتب ويقرأ فيها بعد أن يفرغ من عمله في 'جريدة النهار' عند منتصف الليل، وأحياناً اضطرّته الظروف الأَمنيّة أن يُراجع موادّ المُحرِّرين ومقالاتهم في المنزل. والأهم أن هذا البيت شهدَ على ولادة أشعاره وكتبه". وتُضيف: "عند رحيله طلب المالكون منّا تسليم البيت، وكانت هذه المسألة من أصعب الأمور التي واجهتها مع أخي. كيف يمكننا التعامل بسرعة وحزم، معنوياً وعملياً، مع مكتبة أُنسي الحاج وأغراضه الشخصية ونحن لم نكن قد استوعبنا بعد واقع غيابه؟ ولم نستطع أن نحتفظ بالشقّة المستأجَرة، حيث لا يملك أبي بيتاً آخر لننقل إليه مكتبته وأوراقه وأغراضه الشخصية ومكتبه الذي كتَب عليه زهاء خمسين عاماً!".

ألجأت الظروف مكتبة أنسي الحاج ومكتبه إلى الاحتفاظ بهما في منزل ابنه

وتُوضّح: "عرضنا على المسؤولين الرسميين آنذاك والجهات المعنية بالشأن الثقافي، فكرة أن يقدّموا لنا مساحة صغيرة نجعلها مركزاً يأوي إرث والدي الأدبي للحفاظ عليه مادياً ومعنوياً، ونقيم في المركز أنشطة أدبية محاولين إبقاء شُعلة فكره متّقدة ونقلها بشكل تفاعلي إلى الأجيال الجديدة. لم نلق التجاوب المطلوب بحجّة عدم توفّر الإمكانات المادية واللوجستية لدى تلك الجهات، بالرغم من الإيجابية التي تلقيناها من جامعتَين رحَّبتا باستقبال مكتبته، لم نشأ التخلّي عنها أملاً منّا بإقامة هذا المركز يوماً ما. في الانتظار، تقبع المكتبة مع مكتبه الخاص ومجموعة اللوحات التشكيلية بما فيها البورتريهات المرسومة له، في قبو منزل أخي بحالة جيدة وبطريقة توحي بأن أبي يجلس حقاً بين كتبه ومكتبه".

كذلك تستطرد صاحبة "تحت المطر الأزرق" (2015): "كنّا قد أنشأنا مؤسسة تحمل اسمه، لكننا اضطرّرنا إلى إلغائها في بداية الأزمة الاقتصادية، مع ذلك لم أتوقف عن إصدار أعماله مترافقة بأمسيات شعرية: كتاب 'كان هذا سهواً' (2016)، عن 'دار نوفل'، ويضمّ كتابات له معظمها غير منشور، وكتاب أعماله الشعرية الكاملة عن 'دار المتوسط' (2023)، وكتاب مختارات شعرية له عن الدار نفسها (2024)، بالشراكة مع 'مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون'. كما أُشرِفُ على إعادة نشر كتاب 'كلمات كلمات كلمات' بأجزائه الثلاثة التي تضم مقالاته النثرية المنشورة في الصفحة الأخيرة من ملحق 'النهار الثقافي' بين الستينيات والثمانينيات. وأيضاً إعادة إصدار كتاب 'خواتم' 1 و2، و'خواتم' 3 الجديد، وذلك مع مطلع العام المقبل عن 'دار المتوسط'".

وتختم حديثها لـ"العربي الجديد": "في الزمن الصعب الذي يمرّ فيه لبنان حيث نشهد بألم على تدمير البشر والحجر، أُحاول أن أستمر في نقل إرث أنسي الحاج الثقافي من خلال نشر فكره الرؤيوي الذي يتخطى الزمن والحدود والقوالب، بإنسانيته وسِعة آفاقه وثورته الحيّة التي لا تزال تنبض في كلماته". 
 

جبّور الدويهي (1949 - 2021)... ركنٌ من المنزل يصعب أن يُملأ شغوره

ربما يُشكل أدب الروائي جبّور الدويهي التكثيف الأبرز عن فكرة البيوت، والإشارة الأدبية اللمّاحة التي وجّهت فكرة هذا الاستطلاع، ومن هنا التقت "العربي الجديد" بالفنّانة المسرحية ماريا جبّور الدويهي التي أوضحت أنّ "ظرف العدوان الإسرائيلي الأخير وما فرضه على اللبنانيين من نزوح وتهجير يجعلنا نشعر بقيمة البيت وفكرته أكثر من أي وقت مضى".

من منزل جبور الدويهي (تصوير: محمد زمّار)

وأضافت: "بعدما رحل أبي سافر أخواي إلى فرنسا، وبقيت والدتي بمفردها في منزلنا بمدينة زغرتا. وشخصياً بقيتُ فترة غير قادرة على زيارة البيت، لأن حضور أبي كان طاغياً وفجأة اختفى. في صالون بيتنا تجد اللوحات والمكتب والمكتبة ومجلسه، تلك الزاوية بالتحديد بتُّ أتحاشى النظر إليها، صرتُ أُؤثر المطبخ عليها. وفي وقت لاحق تعاونتُ مع أُمي، تيريز دحدح، على جرد المحتويات الأدبية في محاولة لأرشفة هذه المقتنيات، خاصة أن أُمي كانت تعمل أمينة مكتبة بـ'الجامعة اللبنانية'. كذلك قامت لاحقاً 'جامعة الكسليك' بإنشاء صفحة إلكترونية له لجمع أعماله وعرضها، تتكوّن من منشورات ومقابلات وكتب إلكترونية. البيت قديم بُني منذ أكثر من خمسين عاماً، حصلت عليه الكثير من التغييرات والتوسيعات، تبعاً للظروف التي مرّت بها العائلة".

وحول إمكانية تحويل البيت إلى جمعية أو متحف، تقول: "لا يُمكن هذا، فالبيت يقع في منطقة بعيدة، وما زالت أُمّي تعيش فيه، وهي تُدير شؤونه، ومسؤولة عن كلّ هذا الإرث. لدينا الكثير من الكتب، فوالدي حتى أيامه الأخيرة ظل حريصاً على اقتنائها، لكننا نحاول التواصل مع إحدى الجمعيات الفرنسية لحفظ هذا الإرث بغاية الأرشفة الإلكترونية، إذ لمسنا أن الناس لم تعد مهتمّة كثيراً بالإرث المادّي للأسف. كلّنا لدينا هذا الخوف من المستقبل، خاصة أن إخوتي مسافرون ولا أحد يعلم إن كان هذا الوضع سيطول أو سيتاح لنا من جديد أن نكون بجوار هذه الكتب، كما أن الجيل الجديد قد لا يكون واعياً تماماً لقيمته. وعلى المستوى الشخصي، لا مانع عندي من التبرُّع بكتب ومكتبة أبي، ولكن بالتأكيد ليس الآن، لأنها تُشكّل جزءاً أساسياً من هوية منزلنا. لاحقاً ممكن أن نفكّر جماعياً بهذا الأمر، طبعاً بغرض استفادة الباحثين والطلّاب من هذه المكتبة".

جبّور الدويهي.. الإشارة اللمّاحة إلى فكرة البيوت (مجموعة التقاطات لـ محمّد زمّار)

وتختم: في سنواته الأخير ظلّ جبور الدويهي يعود إلى صديقه الكاتب والباحث فارس ساسين الذي رحل معه في النهار ذاته 23 تموز/ يوليو 2021، بعد رحيل أبي بقرابة ساعتين فقط، ولاحقاً أُنجزت مسرحية عن هذه العلاقة المميزة التي جمعتهما كتَبَها بالفرنسية ألكسندر نجّار.


محمد علي شمس الدين (1942 - 2022)... كعلاقة الكلمة بالقصيدة

في منطقة الجناح عند تخوم الضاحية الجنوبية لبيروت يقع منزل الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين، وفي ذروة العدوان بادرت "العربي الجديد" للاتصال بابنه الشاعر والمترجم علي شمس الدين، الذي أوضح طبيعة العلاقة التي جمعت صاحب ديوان "أدميرال الطيور" ببيته الذي قضى فيه سنواته الأخيرة، يقول الابن: "كان أبي يُحبُّ فيه صوت العصافير الذي يسمعه كلّ صباح، ويدعوه إلى التأمّل في أفكار نهاره، ليس هو منزل طفولته، بل منزل الطفولة كان في بيت ياحون، من قرى الجنوب، هناك عاش فيه مع الجدّ وترعرع على صوت الأذان والأشعار".

الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين في عمل تشكيلي (من محفوظات المكتبة الوطنية بمنطقة الصنائع)

ويُتابع: "علاقة الشاعر محمد علي شمس الدين ببيته كعلاقة الكلمة بالقصيدة، كان هو روح المنزل، وكان العصفور في البيت، كائن شاعري إلى أقصى الحدود، ومتأمّل بكلّ أحوالِ ما حوله ومَن حوله، حتى في عالمه الاجتماعي كان كذلك، وكأنه الشاعر في الشاعر... عاش في هذا البيت حتى آخر لحظات حياته، كنتُ أُجالسه في آخر يوم له في هذا البيت، حين قال لي وداعاً، لكنّنا اضطررنا مؤخراً إلى مغادرته بسبب العدوان الإسرائيلي على بيروت الذي ترك المنطقة مدمّرة بطريقة وحشية".

وعن الطقس الذي كان يمارسه الشاعر، يوضّح ابنُه لـ"العربي الجديد": "كان محمد علي يحبّ الجلوس في أماكن عزلته، يكتب ويقرأ لينعزل عن كلّ ما حوله، حتى الأصوات في تلك العزلة لم يكن يسمعها، يستغرق في تفكيره وفي كلماته، وفي قصائده، ما زالت مكتبة البيت مليئة بالكتُب القيّمة، وبكتبه وأعماله الشعرية، وهناك عمل جديدٌ سيصدر عن العراق بعنوان مختارات شعرية للشاعر محمد علي شمس الدين تحت عنوان 'دم الأشجار'".

كان هو روح المنزل (أغلفة أعمال محمد علي شمس الدين)

وحول مسألة الأرشفة وإمكانيتها يُضيف: "هناك محاولات وهي ما زالت قائمة، كما جرى البحث مع الشاعر إسكندر حبش على تجميع القصائد والمقابلات التي أُجريت مع الراحل في محاولة رقمية، ناهيك عن رسائل الدكتوراه التي بحثت في إنتاج الشاعر محمد علي شمس الدين. وقد كانت هناك مبادرة من وزارة الثقافة تم من خلالها حفظ بعض كتب الوالد في 'المكتبة الوطنية' بمنطقة الصنايع، إلا أنها كانت مبادرة وحيدة، وظلت كذلك. للأسف، الشعراء في لبنان ظلموا في حياتهم، وبعد وفاتهم. ولكن نأمل أن يكون هناك اهتمام أكثر بالثقافة والشعراء في لبنان لأنهم هُم لبنان. أما بخصوص التبرّع ببعض هذا الإنتاج أو المكتبة فلا أتصور أن هذا متاح فالمسألة حساسة بالنسبة لنا حين نتعامل مع مثل هذا الإرث".

ويختم: "كان محمد علي شمس الدين يعود إلى الكثير من الكتّاب في سنوات الأخيرة، أثّر فيه ماركيز كثيراً، وظلّ دائم الاندهاش به، وبروايته 'مئة عام من العزلة'، أحبَّ أدونيس إلّا في تاريخياته، أحبَّ الماغوط وعبد الوهاب البياتي".


سليمان بختي: أن نكافح ضدّ النسيان

وفي محاولة لتوسيع زاوية النظر إلى مسألة إرث المُبدعين الراحلين المادّي، التقت "العربي الجديد" بالباحث والناشر سليمان بختي الذي أوضح أننا "مكلّفون بجمع كلّ ما يمتّ لمثل هذه الوجوه الراحلة، ليس فقط الأثر الورقي، أو الفكري، بل أيضاً المادّي، من كتب ودفاتر وأوراق، واللمسات الأخيرة، الكرسي الذي كان يجلس عليه، ثيابه. الغرب يعيش على مثل هذه الالتفاتات، ويشكّل لجان أرشيف وطنية تؤلّف لحفظها. وبالتالي حصر الأمر بالورثة خطيرٌ وصعب. لأن الوريث يحسبها أحياناً بالخاص وليس بالعام. نحن اليوم في 'دار نلسن' لو رأينا ورقة جديرة بالطبع نعمل على حفظها، لأنها جزء من إبداع أوسع".

ويتابع: "صادفتني حالات تسليم كلّ مقتنيات أحد الراحلين لإحدى الجامعات، وأنا أتفهّم تسليم المكتبة أو بعض الكتب، لكن حتى مع أغراضه الشخصية، هذا ليس من اختصاص الجامعات. ولنأخذ مثلاً آخر، الشاعر خليل حاوي (1919 – 1982)، إلى الآن ما زال أهله يُحافظون على أوراقه الشخصية لإمكانية قيام متحف لاحقاً في بيته ببلدة ضهور شوير. نحن سعينا أيضاً فأسّسنا له شارعاً وتمثالاً. ولا ننسى طبعاً أن أسماء أُخرى لقيت اهتماماً أكبر وتأسست لها متاحف مثل 'متحف أمين الريحاني' في الفريكة، و'متحف ميخائيل نعيمة' في المطيلب، و'متحف جبران' في بشري".

وحول واقع بيوت المبدعين في ظل العدوان الإسرائيلي، يقول: "منذ مدة دمّر بيت رائد الفن الشعبي محمد شامل في عدوان على الضاحية. المكتب والأوراق والنصوص والجوائز وقصائده غير المنشورة". ويلفت إلى ضرورة أن يكون هناك وعي من قبل الورثة، فأوراق كثيرة من إرث الشيخ عبد الله العلايلي (1914 – 1996)، لم تطبع بعد. ويتساءل: "لماذا لا تُشكّل لجنة محفوظات وطنية تابعة لوزارة الثقافة بالتعاون مع العائلة؟ أنا وأنت الآن نقف في منطقة كلّ عمارة فيها أستعدّ أن أثبت لك من كان ساكناً فيها من كُتّاب أو فنّانين. الأمر غير مكلف تكفي لوحة صغيرة مكتوب عليها 'هنا عاش'، مع سطري تعريف بصاحبها". 

سليمان بختي

ويُضيف: "عام 1975 رحل الفنان المسرحي شوشو (حسن علاء الدين)، وقد حفظ ابنه الأوراق الخاصة به، ومؤخّراً رحل ابنه والأوراق والمسرحيات بقيت بعيدة عن جيل لا يعرف من هو شوشو، لولا الجهد الذي بذله الباحث فارس يواكيم في إظهارها إلى النور. كذلك سعينا لتسمية أحد شوارع بيروت باسم شوشو فتوجّهنا إلى رئيس بلدية بيروت بلال حمد، وجمعنا تواقيع لـ99 مثقّفاً، وقعوا على البيان، بصُحبة المختار، وذلك بمناسبة 40 عاماً على رحيل الفنّان. رحّب رئيس البلدية بالأمر، شرط أن يُسمَّى خارج 'سوليدير' (وسط المدينة التجاري الفاره)، ولم نُمانع فالمهمّ أن تكون هناك تسمية بغضّ النظر عن المكان. لاحقاً قمنا بالاتصال به، لكنّه اختفى تماماً ولم يعد يجيب على اتصالاتنا. ومردّ هذه الطريقة بالتعامل معروف، فالبلديات هي الوجه الآخر للسياسيّين، كل ما تسعى إليه هو تحصيل الضرائب والمخالفات ولا علاقة لها بالثقافة". 

مكلّفون بجمع كلّ ما يمتّ للراحلين، وليس فقط الأثر الورقي

كما يطرح بختي مثالاً آخر حول تسيُّب البلديات وعدم اكتراثها بشؤون المبدعين الراحلين، يقول: "في مئوية جرجي زيدان، وهو من بلدة عين عنوب، اتصلت برئيس بلديتها، وقلت له كل ما نريده منك تسمية شارع باسم جرجي زيدان، ومن دون تنفيذه، لأننا نريده على وجه السرعة للاحتفال بمئويته ونُحيل الإنجاز إليكم، وبعده نفّذه بأريحيتك. لكن هذا المسؤول تحجّج، وعاد لاستشارة زعيمه السياسي الخاص به. ولاحقاً ردّ علي: 'ما مشي الحال'، وأنهم مشغولون في البلدية بتمثال للزجّال طليع حمدان، وهذا الأخير صاحب قصيدة يحض فيها على قتل الآخر، وراجت أيام الحرب الأهلية. في حين أن مصر سكّت جنيهاً من فضّة يحمل صورة زيدان كما اتصل بي سفير مصر للمشاركة في الندوة". 

وينطلق بختي في حديثه من الراهن مشيراً إلى أننا "في هذه الأيام احتفلنا بعيد السيّدة فيروز، والجميع كتب وقال كلاماً في الهواء، ولكن ماذا عن البيت الذي نشأت به في زقاق البلاط؟ وماذا عن بيت الأخوين رحباني في أنطلياس؟ أليس جديراً أن 'تبقى أساميهن وما تنمحى'. الكبار حين يرحلون يأخذون المكان معهم. والمهمة أمام المجتمع، بدءأ من العائلة إلى وزارة الثقافة كلّنا مُدانون. والمشكلة تنبع من الزاوية التي ننظر بها إلى تراثنا، هذا سؤال صعب. هل هو تراث حي متفاعل في حياتنا، أم مجرد تقطيع وقت و'تلبيص'".

ويتساءل: "أين الباحثون؟ هل تعلم أن هناك ثلاثة كتب لميخائيل نعيمة لم تُنشر بعد؟ نحن لم نُخلق من عدم، هناك من يفكّر بطريقة القطيعة التي تعكس حالة نظرة الزعماء إلى التاريخ، بي ومعي يبدأ التاريخ. وخذ مثالاً آخر، تكفّل أحد الأصدقاء باستلام مكتبة من وريث أحد المبدعين، ولا تتصور الطريقة التي تم التعامل بها معنا وكأننا 'سوكلين' (شركة لبنانية مسؤولة عن أعمال النظافة) ونقوم بتنظيف المكان، لكتب عزيزة مليئة بالإمضاءات". 

ونبّه بختي في حديثه إلى "العربي الجديد" إلى نماذج من باحثين سلّموا مكتباتهم إلى عدد من المؤسسات قبل أن يرحلوا، منهم كمال الصليبي، الذي أوصى بكتبه لـ"جامعة الكسليك"، وهنري فريد الذي أوصى للجامعة نفسها، كما سلّم المؤرخ حسان حلاق كتبه لـ"الجامعة الأميركية"، وورثة عمر فروخ سلّموا كتبه لـ"جامعة بيروت العربية"، في حين سلّمت الروائية إملي نصر الله بعض كتبها لـ"جامعة القديس يوسف"، كما نظّم مؤخّراً المؤرّخ فواز طرابلسي معرضاً في "مكتبة نعمة يافث التذكاريّة" داخل حرَم "الجامعة الأميركية" ببيروت بعنوان "في رحاب العلّامة عيسى إسكندر المعلوف"، ويضمُّ مخطوطاتٍ وكتُباً وصُحفاً وصوراً من مقتنيات جدّه العلّامة النهضوي. 

وختم: "هذا بلد يُنسى فيه كلّ شيء بعد حين... وعلينا أن نكافح ضدّ النسيان".


كلمات أخيرة

أثناء إعداد هذا الاستطلاع كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان في ذروتها، وشكّل نسْفُ بيت الفنّان التشكيلي عبد الحميد بعلبكي في العديسة دافعاً لتطوير فكرته، الأمر الذي جعلنا نقع على عدّة أمثلة أُخرى بالإضافة لما تقدّم به الضيوف المشاركون. ففي صيف العام الماضي قرّر مالك مبنى "كوجاك جابر"، وهو عبارة عن عمارة بيروتية مميّزة تقع في منطقة الرملة البيضاء، أن يهدمه. وفضلاً عن أن العمارة تُعدّ نموذجاً لبواكير تفتُّح الحداثة في البلد، حيث صمّمه المعماري الأردني فيكتور حنّا بشارات عام 1964، يتضمّن أيضاً الشقّة التي سكَن فيها المفكّر الماركسي حسين مروّة (1908 – 1987)، قبل اغتياله. أثارت الرغبة بهدم المبنى المخاوف لدى عدد من الكتّاب والمهتمّين بشؤون التخطيط الحضَري، فكتبوا عريضة توجّهوا بها إلى وزارة الثقافة و"بلدية بيروت" بغرض منع المطوّرين العقاريين من الاستيلاء على الفضاء العام وذاكرة المدينة والتحكّم بهما.

من مشروع "عاش هنا" في كفرشيما

في المقابل، تفرّدت "بلدية كفرشيما" بتجربة لا بدّ من الإشارة إليها، وتتمثّل بمشروع "عاش هُنا"، حيث أعادت البلدية إضاءة بيوت مجموعة من المبدعين الراحلين ووضعت إشارات تدلّ إليها. وشمل المشروع أربعين اسماً من أبناء البلدة، ومنهم في حقل الموسيقى والغناء: فيلمون وهبي، وحليم الرومي، وعصام رجّي، وملحم بركات، وفي حقل الصحافة والأدب: ناصيف اليازجي، وسليم وبشارة تقلا، ووديع سليمان، وميشال قهوجي، والإخوة شميل: شبلي وأمين ورشيد، ومارون نصر، وفايق رجي، وروبير الصفدي. ومن اللافت حقّاً أن تكون كلّ هذه الأسماء قد وُلدت، أو نشأت في سنيها الأولى على الأقل، بهذه البلدة الصغيرة.

وبين إعداد هذا الاستطلاع وإنجازه ونشره، كانت الأحداث في سورية تتسارع، حيث أُعلن في الثامن من الشهر الجاري إسقاط نظام الأسد البائد، فبدأنا نفكّر بأحوال بيوت الراحلين في ظلّ الأبدية الأسدية المقيتة التي شوّهت معالم البلاد، ولم يتأخر الوقت كثيراً حتى انتشر تسجيلٌ لأحد تلك البيوت وقد استعاد حرّيته، وهو بيت الفنّانة الراحلة أسمهان (1912 - 1944)، الواقع في مدينة السويداء، جنوب سوريّة، والذي كان النظام قد حوّله إلى ثكنة عسكرية، وتذكّرتُ كيف كُنّا نمرّ بجوارها ولا نعرف أي مجهول يدور فيها، رغم وقوعه في وسط المدينة، ولعلّ الأيام المقبلة تقودنا إلى توسّع أكثر في الحالة السورية. بهذا فإن حال بيوت الراحلين، والنظر في ما هي عليه، يقول الكثير عن أحوالنا وأحوال مُدننا، التي إن لم تصل إليها يد الاحتلال وآلةُ إبادته، يتكفّل الاستبداد بتحطيم ما تبقّى منها، أو يتواطأ عليها الاثنان.



إقرأ المزيد