العربي الجديد - 12/20/2024 8:38:00 AM - GMT (+3 )
مكتب إملي نصر الله في "بيت طيور أيلول" بالكفير، ومن إحدى غُرف منزل وليد غلمية ببيروت
عادةً ما يأخذ الحديث عن إرث الكُتّاب والفنّانين الراحلين طابعاً معنوياً، لكن ماذا عن البيوت ومقتنياتها؟ ما مصيرُها؟ وكيف هي علاقة الورثة معها؟ ضمن هذا التساؤل، تلتقي "العربي الجديد" بمجموعة من ورَثة مبدعين لبنانيين، للحديث عن كثب حول مصائر بيوت مبدعينا الراحلين، انطلاقاً من مشهد الدمار الذي خلّفه العدوان الصهيوني الأخير على بيوت اللبنانيين عموماً.
إملي نصر الله (1931 - 2018)... الرواية بيتاً
في عام 2015 رغبت الروائية والكاتبة اللبنانية إملي نصر الله بتحويل البيت الذي ترّبت به في بلدة الكفير، بقضاء حاصبيا، إلى ملتقىً أدبي يجمع أهل البلدة، والمغتربين، ومن هنا نشأت فكرة جمعية "بيت طيور أيلول" التي اتخذت اسمها من عنوان روايتها الأولى "طيور أيلول" (1962). التقت "العربي الجديد" بمديرة الجمعية والمسؤولة عن الأرشيف، مها إملي نصر الله، التي أوضحت أن مُلكية هذا البيت كانت موزّعة بين أُمّها وإخوتها، ولاحقاً اشترت الروائية الراحلة حصص البيت الموزّعة، وحوّلته إلى جمعية مسجّلة تولّتْ رئاستها، بعد ترميم البيت التراثي.
وتُتابع: "بعد ستة أشهر من رحيل أُمّي افتتحنا البيت عام 2019، وأطلقنا الكتاب الأخير لها وهو عبارة عن سيرة ذاتية حول طفولتها بعنوان 'المكان'، صدر عن 'دار قنبز'. وقبل الإطلاق، روّجنا له في شوارع الكفير حيث وزّعنا صُوراً ومقتطفات منه على لافتات كبيرة بالإضافة إلى صور للراحلة بالأبيض والأسود. الأمر الذي عرّف عموم الناس بالحدث، وخفّف من مظاهر الغرابة عندهم. استقبلنا حينها مئات الزوّار في المنزل رغم أنّ بلدة الكفير بعيدة جدّاً عن بيروت. كنّا نرغب بتعريف أكبر قدر من الناس بالأديبة الراحلة، ومُنجزها الكتابي، والبيئة التي عاشت فيها منذ طفولتها. وهكذا تحوّل هذا اليوم الأيلولي إلى تقليد سنوي، يتضمّن عدة أنشطة، كالمشي من بلدة كوكبا (مسقط رأسها) إلى الكفير (مكان النشأة)، لكنّ جائحة كورونا قطعت هذه الصلة، ومن بعدها تدهور الوضع الأمني والاقتصادي، فتوقّف النشاط، لكنّ البيت ما زال موجوداً والنيّة قائمة للعودة حين تسنح الظروف".
وعن زوّار "بيت طيور أيلول" والمقتنيات التي يحويها، وحالته، تقول ابنة الروائية الراحلة لـ"العربي الجديد": "خلال عامين قبل كورونا كان البيت مزاراً لطلّاب المدارس، كما هو الحال اليوم، والباحثين والمهتمّين بأدب إملي نصر الله، حيث احتوى كُتباً وشرائط، وعرضنا فيه فيلماً وثائقياً بعنوان 'عودة طيور أيلول'، لمناسبة عيد ميلادها الثمانين. فالبيت بحدّ ذاته إرث، من قَبل ترميمه ومن قَبل أن نضع فيه مُقتنيات الراحلة. كذلك قُمنا بنقل مكتبها وقسم من مكتبتها إلى هذا البيت، وجهّزنا غرفةً للمنامة بغرض أن تُصبح نُزلاً لإقامة أي فنّان أو باحث مهتمّ بإملي أو حتى بالمنطقة عموماً، بحيث تكون هذه الغرفة محطّة له تُساعده على الإنجاز".
كذلك توضّح مها نصر الله أنّ الورثة من العائلة كانوا يرغبون بنقل الأرشيف كاملاً إلى هذا البيت، لكنهم شعروا بالخطر لأن البيت بعيد عن المركز، ففضّلوا أن يُرقمنوا الأرشيف، ليبقى بنسخته الأصلية في "المكتبة الشرقية" التابعة لـ "جامعة القديس يوسف" في بيروت. وتضيف: "مع ذلك فالخوف يبقى قائماً طالما أنّ حرباً إسرائيلية على لبنان يمكن أن تُستأنف، وممكن أن تصل إلى منطقة الكفير المُتاخمة للجنوب".
ولفتت نصر الله الابنة إلى دور خال أُمّها الراحلة، الأديب المهجري أيوب أبو النصر، في تكوين إملي الأدبي منذ طفولتها، كما استطردت بالحديث حول جهود حفظ الإرث المادي المرمية على عاتق الورثة فقط، في حين أنّ الجهات الرسمية الحكومية شبه غائبة، خاصة في هذه الظروف، مُشيرةً إلى تعاونهم في "بيت طيور أيلول" مع "جمعية موريس خير الله" التابعة لـ"جامعة نورث كارولاينا" الأميركية ومنحها حقّ الاستفادة من الأرشيف الرقمي، بهدف إنشاء منصة إلكترونية تكون بمتناول الجميع. وختمت حديثها إلى "العربي الجديد": "لو سألتَني عن الكتاب الذي ظلّت تعود إليه إملي نصر الله في سنواتها الأخيرة، فالإجابة ستكون الإنجيل".
عبد الحميد بعلبكي (1940 - 2013)... متحف الفنون الذي دمّره العُدوان
شكّل نسْفُ العدوان الصهيوني لـ منزل الفنّان والشاعر عبد الحميد بعلبكي، في بلدة العديسة الجنوبية الحدودية، حدثاً مأساوياً من ارتدادات العدوان الإسرائيلي على رموز الثقافة في لبنان، ما دفعنا إلى التفكير بإنجاز هذا الاستطلاع. وتحدّث ابن الفنّان الراحل، التشكيلي أسامة بعلبكي لـ"العربي الجديد"، عن هذا البيت انطلاقاً من رؤيته لحرب الإبادة ذاتها، يقول: "نحن في حرب إبادة صهيونية صعبة جدّاً، تستهدف شعوب المنطقة أوّلاً، والفنّانون ليسوا بمعزل، ولكنّ حيثيّتهم تُعطي إضافة إلى هذه البيوت المشمولة بالتدمير والتوحّش والرغبة في الانتقام والكراهية. نحن أصبحنا نقطة في بحر من التجاوزات الكبرى. نعم دمار البيوت هو دمار لإحساس الناس بالاستقرار، بوصفها ملجأً لذاكرتهم".
مسؤولية مُلقاة على عاتق الورثة ومحاولات خاصة للأرشفة
ويُتابع: "نشأ أبي في بيئةٍ صعبةٍ، واشتغل كافة الأعمال في سبيل أن يصبح فنّاناً. واعتمد كلّياً على نفسه حتى استطاع تكوين ثقافة إنسانية خاصة به. ومن ذلك تحقيقه حلم الطفولة المتمثّل ببناء بيت قريب من الطراز الشرقي الأندلسي، لأنّ في هذا تكملةً لرؤيته العروبية العِلمانية الحضارية التي بدأت ملامحها بالبزوغ في الخمسينيات. البيت إذاً انعكاسٌ لأفكاره، برفضه العمل البرّاني للمثقّف، ورفض الأفكار ما لم تكن مزروعة في تربتها الاجتماعية والحضارية. وبالتالي هذا البيت جاء على هذا الشكل من تحقيق الأحلام، أي رغبته بالارتقاء ببيئته الفلاحية الريفية، وألّا تُترك وحيدة لتدبُّر شؤونها الوظيفية والبيولوجية من دون لمسة جمالية يُضفيها الفنّان على محيطه أثناء القيام بدوره. والثقافة في بلداننا حتى في المدينة لا تكون فعّالة وذات نشاط، ولكن محاولته في الريف وبهذا المستوى كانت ضرباً من المُغامرة والجدّية في آن".
ويستعيد بعلبكي الابن رحلة العائلة في بناء هذا البيت، حيث يقول لـ"العربي الجديد": "كانت عائلتنا مستقرّة في منطقة الشيّاح على أطراف بيروت، ونتيجة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، عادت إلى العديسة جنوباً. وفي عام 1984 بدأ بناء البيت في ظروف صعبة جدّاً بالاتّكال على معاش أبي كأستاذ في الجامعة، وهكذا حائطاً وراء آخر، بقي البيت في حالة من التعمير المستمرّ حتى بعد رحيل صاحبه عام 2013. بل إلى لحظة دماره على يد الاحتلال في تشرين الأول/ أكتوبر لم يكن قد انتهى بناؤه بشكل كامل فعلاً. لقد هُدرت فيه الكثير من السنوات، وتعاون أبي وأمي في إنجازه. بيتُنا طفلٌ إضافي في عائلتا كلّنا اشتركنا بتربيته أبي وأمي وأنا وإخوتي: سميّة ولبنان ومنذر وسلمان وجمانة ولبنى وربى. وبعد التحرير عام 2000 كان نفَسُ الناس هناك مُنتعِشاً، كلّ الآلام قد رُحِّلت والتعب أثمر عن إنجاز تحرير الأرض، وبدأت الناس تُعمّر بقوة في المنطقة تأكيداً على رغبتها في مواجهة الاقتلاع مرّة أُخرى في المستقبل. فإسرائيل هي التهديد العسكري الدائم لشعوبنا بالتحطيم والتدمير. وفي هذه الفترة أنجزنا القسم الأكبر من المنزل وكلّ ما كنّا نملك في بيروت من مقتنيات وكتب ومكتبة ضخمة تضمّ آلاف العناوين في الفنّ التشكيلي وغيرها، كلّ هذا شُحن إلى العديسة على أساس أنها المستقرّ النهائي".
ويُضيف صاحب معرض "ضوء داخلي" (2024): "عندما رحلت والدتي، أديبة، في 2003 دفنَها أبي في حديقة البيت تحت أشجار السنديان، كان شاعرياً في علاقته مع المكان. لم يكن يرغب بمدفن عمومي يحوّل الناس إلى كتلة واحدة متراصفة من القبور. ولاحقاً حفَر قبرَه بجوارها قبل أن يرحل بفترة ليست قصيرة، في دلالة على قوة شخصيته، وارتباطه بأُمّي وبالأرض وبالبيت. كان مشهداً لا يُنسى، وبالفعل حين رحل دفنّاه فيه".
وعن تلقّيه خبر نَسْفِ البيت، يقول بعلبكي لـ"العربي الجديد": "الخبر لم يكن مفاجئاً بالنسبة لي رغم هوله وفظاعته. كنت متوقّعاً ما سيحدث بالفعل. فالقرار بتدمير القرى كان واضحاً ولكنّنا بقينا نقول لعلّ الصدف تُغيّر الوقائع. هذا جُرح جماعي مفتوح، وأنا أرفض أن أُميّز نفسي عن الناس الذين استُشهد لهم أحبّاء وأبناء، بينما أنا خسرت بيتي فقط، وهنا لا بد أن أتعامل بتحفّظ على المستوى الشخصي. فالمشروع الثقافي بالنسبة لي ولأخوتي لا يتوقّف، يمرّ بمحطّات وتحدّيات، والحرب على رأسها، ولكن الحياة تستمرّ. قضيّتنا نبيلة أن نقف بجانب فلسطين ضدّ الصهيونية. هذا شعار يعوّض مستوى الإحساس بالخسارة، ويدفعك لتجاوزه أحياناً".
ويختم: "قبل سنوات أقمنا معرضاً استعادياً للراحل في بيروت، وكنّا قد استوعبنا بعض اللوحات لاحقاً في بيوتنا، الأمر الذي يعوّض بعض الخسارة. يبقى تضامُننا وحده سبيلاً للعبور أمام الخسارات الفادحة. هذا هو الحسّ السليم. أن نكون ضدّ الاعتداء والإبادة، ومع فلسطين. لا خيار أمامنا سوى المعنويات العالية. أنا لن أكون موطناً للأفكار الفاسدة، وبالإحساس أنّي مغلوب. الجرائم التي تُرتكب لا يظنّ أحد أنها تُؤدّب الشعوب، على الإطلاق، ويجب ألّا نرتجف أمامها".
وليد غلمية (1938 - 2011)... في هذا الممرّ أبدع سيمفونية المتنبي
في بلدة جديدة مرجعيون وُلد لجورج غلمية عام 1938 طفلٌ سمَّاه وليداً، ولم يطل الأمر كثيراً حتى عُرِف الفتى بموهبته الموسيقية، في عائلة كان أغلب أفرادها من هُواة الفنّ. لاحقاً استكمل الفتى تعليمه في صيدا ومنها انتقل إلى بيروت التي قضى فيها حياته، هناك لمع نجمُه رائداً من روّاد الموسيقى الكلاسيكية في لبنان والعالم العربي.
تتحدّث زوجة الراحل، إلهام غلمية، إلى "العربي الجديد" مُستذكرةً سنة زواجهما الأولى عام 1970، لافتة إلى أنّ بيتهما في منطقة رأس بيروت كان شاهداً على حُبّهما الذي تكلّل بالزواج. تُشرّع أبواب المنزل وتقودنا بحفاوة في جولة بين غُرفه بحديث يُوقظ الذاكرة والشوق معاً: "لم يكن المنزل بهذه الهيئة التي تراها، تعاونّا معاً حتى صار كما ترى. هنا، وبصحبة هذا البيانو أمامك، أنجز ثلاثاً من سيمفونياته، في هذا الممرّ الذي لا يتجاوز عرضه أكثر من متر ونصف. هنا التأسيس والتعب في سنوات الحرب الأهلية، حين كان يكتب على الباب الرئيسي 'ممنوع الدخول' حتى يتمكّن من إنجاز عمله بهُدوء الفنّان وصرامته. من هذا الممرّ الضيّق خرجت أعظم أعماله. حتى أنا، ورغم كلّ السنوات التي مرّت لنا معاً، ما زلت أتعجّب من تلك القدرة الجبّارة التي وقفت خلف أرقّ موسيقى".
حفاظٌ على إرث مادّي يبدأ بلوحة "عاش هنا" ويتجاوزها
تضع غلمية في حديثها اليد على منطلقات ورؤى زوجها الراحل وكيفية نظره إلى موقع الفنّان من المؤسسة، تقول: "أفنى وليد حياته من أجل المؤسسة والتفكير المؤسسي. خاصة أنه أسس واحدة من أبرز فرق العالم العربي الموسيقية: "الأوركسترا الفيلهارمونية"، فضلاً عن رئاسته لـ"المعهد الوطني العالي للموسيقى"، وأهمّية عمله تنبع من كونه وطّن هذا اللون الموسيقي الذي لم يكن معروفاً من قبله".
وحول المكتبة الموسيقية التي يضمُّها البيت تقول: "كانت مليئة بالمراجع فقد احتضنها هذا الصالون الذي نجلس فيه الآن قبل أن ننقلها إلى بيتنا الآخر في بلدة بيت مري. وقد اضطررنا إلى ذلك عندما أخذت الحرب الأهلية تشتدّ وصارت منطقة رأس بيروت تعجّ بالمسلّحين، حيث دخلوا إلى المنزل عدّة مرات. وأمّا الأرشيف فقد قمتُ بتسليمه كاملاً إلى 'الجامعة الأميركية' في بيروت بُعيد رحيل زوجي وليد، بالتنسيق مع نبيل ناصيف الذي أشرف على ذلك، ضمن إطار 'برنامج زكي ناصيف للموسيقى'، والذي كان أحد مؤسسيه. بهذا كان هو نفسه متنبّهاً لفكرة حفظ تراث الفنّان بعد رحيله، وحرص على ألّا يكون متفرّقاً، بل موجودا ضمن مؤسسة مختصّة. وليد غلمية رجل مؤسسات وما كان ليُفكّر من منطلق فردي أبداً".
وتُضيف: "نحن نشهد غياباً للجنة وطنية خاصة تأخذ على عاتقها همّ رعاية محفوظات المبدعين، الأمر الذي فتح الباب لتسيّب كبير. إيجاد مثل تلك المؤسسات ينقل المُلكية من الخاص إلى العام، من الفردي إلى الإنساني والوطني. تصوّرْ أن شخصاً بقيمة وليد غلمية كان يلقى التكريمات من بلدان أجنبية، في حين أنه لا متحف ولا غرفة في الكونسيرفتوار اللبناني، ولا حتى مدرسة باسمه. بل لا يُوجد حتى لافتة صغيرة في شارع الحمرا تُشير إلى هذا البيت، في حين تحوّل الشارع إلى مكان يعجّ بالمطاعم والمحلّات. يبدو أن مثل هذه الأمور لا تخطر في بال المعنيّين".
وتتابع زوجة الشريك المؤسّس لـ"مجلّة الحداثة" (1979): "ما اشتغل عليه وليد غلمية هو صناعة أجيال موسيقية بدأنا اليوم نلمس حضورها، ورسوخها، لأن التأسيس لفنّ مثل الموسيقى يتطلّب جهداً كبيراً ويبدأ قطفُ ثماره بعد عقود من التدريب الثقافي والتذوّق، حتى عربياً لم يكن هذا منتشراً سوى في مصر".
وتختم إلهام غلمية حديثها إلى "العربي الجديد": "في سنواته الأخيرة ظلّ وليد يعود إلى السيمفونية الثانية التي وضعها بعنوان 'المتنبي: أو سيمفونيا الإرادة والبطولة'، قرأ في سياقها كلّ ما له علاقة بشاعر العربية الأبرز، أما من حيث الكتب فكان متنوّع الاهتمامات، حتى تلك التي تقع خارج تخصصه. وكانت آخر مساهمة له تصريحاته للصحافة في وثائقي من إنتاج 'الجزيرة' عن الأخوين فُليفل".
حسين ماضي (1938 - 2024)... سعيٌ مؤسَّسي لجمع أرشيف الفنّان
في كانون الثاني/ يناير 2024 رحل التشكيلي حسين ماضي، لكنه كان قد أنشأ في عام 2013 مؤسسة باسمه لحفظ أعماله، وتقع في عمارة عزار بشارع المكحول في بيروت، وفي الطابق الخامس من العمارة يقع منزله، و"هو مقفل حاليّاً بسبب إشكال قضائي" حدث بعد رحيل صاحبها، كما يوضّح نضال ماضي مدير "مؤسسة ماضي" لـ"العربي الجديد"، الذي يعود بحديثه إلى عام 2020 موضّحاً مبادرة وزير الثقافة محمد داود حينها، إلى جعل البيت والجمعية يتبعان معنوياً لمديرية الآثار، من دون أي تدخّل آخر. ويتابع: "لا توجد أعمال لماضي خارج المؤسسة ولا في الغاليريات العالمية. أخذت المؤسسة على عاتقها حفظ الإنتاج الفنّي حتى لا يتوزّع بطريقة سلبية. هو كان يترأس المؤسسة وكنتُ أُساعده في أمورها بالإضافة إلى مُحامٍ ومختصين آخرين. واليوم نحاول توسيع كادرها ونُعيّن لها مجلس أمناء".
ويُفصِّل حول نشاط المؤسسة قائلاً: "أرشفنا كلَّ أعماله وصوَّرناها ورقمنّاها. كلّ هذا مجرود بشكل دقيق ومُقسّم حسب الأصناف التشكيلية والفنّية التي اشتغل عليها. ولكنها غير موجودة بعد على موقع إلكتروني خاص. لكن الخطوة الأهم والتي نسعى إليها هي إنشاء كتالوغ يحتوي كلّ أعماله، ويقوم بإعداده باحث أو ناقد مختصّ. فالمادة باتت شبه مكتملة وتبقّى أن نُجري بعض الإعلانات لأي أحد عنده عمل من توقيع الفنّان الراحل حتى نقوم بأرشفته. كما انصبّ أغلب نشاطنا في الأعوام الثلاثة الأخيرة على جمع القطع من المتاحف، بعد أن أوقفنا عمليات البيع". ويضيف: "مؤخّراً قمنا بعرض نُسخ من أعماله في 'فضاء بياتي الثقافي' ببيروت، والذي تأسّس بعد رحيله. لكن في النهاية أنت لا ترى الأعمال الأصلية، بل 'طباعة جيكليه' (Giclée) وهي مختلفة عن القياسات الأساسية للوحة، وتقوم على مبدأ البخّ أو الرّش، وهي عملياً طباعة استنساخية للوحات الفنّية التشكيلية أو الصور الفوتوغرافية، من مصدر رقمي أمين مأخوذ عن الأصل بدقّة عالية الجودة. والمكان هنا مفتوح أمام الناس وبإمكانهم رؤية بعض الأعمال".
كما يتطرّق نضال ماضي، في حديثه إلى "العربي الجديد"، إلى شروط حفظ الأرشيف من وجهة نظره، يقول: "مبدئياً نسعى لكسر الخصوصية، هذا تراث فنّي وليس عائلياً. صحيح أننا نحيا في بلدان خاضعة لمنطق القرَابات لكن سيرة حياة الراحل أكبر دليل على رفض هذا التقليد. في المؤسسة كان هو الوحيد الذي له حقّ الإهداء، وهو محدود بسقف خلال العام الواحد. وبالتالي لا ضير لو استفدنا من تجارب الغرب في هذا السياق، ولا شك في أننا تأخّرنا عربياً بتأطير هذه المفاهيم وترجمتها إلى عمل جماعي لأننا نشتغل بمزاج وشخصنة. الأرشفة سهلة فبمجرّد تأمين فريق يتم الأمر تدريجياً. ونحن قمنا بذلك من دون أن نتلقى أي تبرّعات من أي جهة لا في الداخل ولا الخارج. ولكن إن كان هناك من مساعدة يُمكن لأي جهة أن تقدّمها فتتمثل في مساهمتها بتصميم كتالوغ جامع لأعمال الراحل. لدينا بعض الأصدقاء في إيطاليا يساعدوننا كذلك في جمع وشراء الأعمال المتفرّقة. هذه أولويتنا اليوم قبل أي شيء، ولو أنجزناها سنكون قد أسدَينا أكبر خدمة لفنّ حسين ماضي".
وعن نشاطات الجمعية الأُخرى يقول: "مؤخّراً صدر عن الجمعيّة كتاب بعنوان 'حسين ماضي.. حديقة وراء الجدار' للكاتب المسرحي عبيدو باشا، كما كانت الباحثة عليا مطر تعدّ كتاباً عنه، في محاولة لاستنطاق هوية الفنّان ومساءلة الأشياء التي يتجنب قولها عادة، ولكن اضطررنا للتوقّف بسبب العدوان الإسرائيلي على لبنان. كما نظّمنا تكريماً للراحل في 'جامعة ألبا'، وآخر في مقرّ جمعية 'ريبرث'".
وعن سؤال التبرّع بجزء من مكتبة الفنّان أو بعض من أرشيفه، يقول مدير "مؤسسة ماضي": "لا نتردد ولا لحظة لو أن هذا الأمر يفيد طلّاب كلّيات الفنون أو المتاحف والمؤسسات الفنية. وعلى مستوى آخر لمفهوم التبرّع دعمت جمعيتنا القضية الفلسطينية، بأعمال فنية طبعاً وليس بالأموال. وذلك انطلاقاً من مقاربة حسين ماضي الفنية لقضية فلسطين، كإنسان وُلد في بلدة شبعا تلك القرية الواقعة على المثلّث الحدودي بين فلسطين ولبنان وسورية. كما قدّمنا بعض أعماله المتعلقة بالقضية: منحوتات وملصقات ولوحات لـ'مؤسسة الدراسات الفلسطينية' وعُرضت في معرضها الأخير: 'غزّة'".
ويختم نضال ماضي حديثه إلى "العربي الجديد" بالكلام عن المرّة الأخيرة التي حاول فيها حسين ماضي الرسم بتذكُّر ممزوج باللوعة: "توقّف حسين ماضي عن الرسم منذ سنتين بعد أن فقد القدرة على رسم خطّ مستقيم، هذه كانت قناعته أن يتوقف عندما يحسّ بتلك الإشارة الصعبة. فقبل أن يرحل بستة أشهر قال لي سأختبر نفسي. فحضّرتُ له لوحاً 70 × 70 سم، وجلس ليُجرّب يده، رسم مجموعة الطيور الأثيرة عنده، ولوّن أربعة أو خمسة منها، وهو ينظر إليها بعدم ارتياح إذ لم تكن الزوايا قد أخذت الشكل الذي يريده، حينها أدرك أنه يجب التوقّف عن الرسم بشكل نهائي، وكان ذلك في شهر آب/ أغسطس 2023".
إقرأ المزيد