رقبة وثلاث مشانق
العربي الجديد -

طفلة قرب خيمة عائلتها في دير البلح بغزّة، 15 ديسمبر/كانون الأول 2024 (Getty)

أكذب لو قلت إنَّ حياتي بعد طوفان الأقصى، لم تتّخذ منعطفاً جذرياً. ماذا حدث؟ فقط عدتُ لقناعاتي القديمة أيام كنت يسارياً زمنَ السبعينيات من القرن العشرين. فقط عدت إلى الثوابت الأولى كمراجع تأسيس للوعي.

في عام 1977 أكملت مخطوطة شعر بعنوان "رقبة وثلاث مشانق". الله يرحم العظيمة سلمى الخضراء الجيوسي، أمّنا ورائدتنا، حين التقيتها في "فندق النيل" بالقاهرة عام 82، أثناء "مهرجان شوقي وحافظ" فأعجبها العنوان، وطلبت المخطوطة للقراءة، لكن هذه كانت مدفونة في حفرة عميقة معلومة تحت شجرة كينيا معمّرة في أحراش خانيونس، ملفوفة بطبقات من النايلون، لئلا تطاولها الرطوبة، ولا يعلم بها أحدٌ.

كانت فلسطين هي الرقبة، والإمبريالية الشمالية مع ربيبتها الصهيونية، بمعية الرجعية العربية، أضلاع المشانق الثلاث. لم أحزن كثيراً على ضياع المخطوطة للأبد، حين عدت ووجدت جنة الأحراش انقلبت مستوطنة مسلحة.

كان شِعر بدايات، ولم يكن في مكنته ذلك الوقت أن ينجو من المباشرة. لكن قلبي يقرصني اليوم على عدّة مخطوطات كتب من شعر ويوميات، احترقت في هذه الحرب، بعد حرق المكتبة ومن ثم تدمير البيت.

لقد بُذل في ثمن البيت شقا جيلين من العائلة، ولما وصلني خبره، لم أحزن والله، ولم أتأثر، فلست سوى واحد من غمار الناس، وما يلحقهم يلحقني. ولست سوى واحد من شعب، مستعد أن يدفع مهر البلد دماً.

حزنت وتألمت فقط، على أن المشانق الثلاث لم يمسسها أيما تغيير ولو طفيف، منذ نصف قرن. بل بالعكس: أبانت عن نابها، عارية تماماً، وقحة تماماً، لتعيدنا إلى تطرّف مرحلة الشباب. وهذا أفضل.

سبحان الله: عندما يشيخ الإنسان، ويمتلك صفاء الرؤية، بلا رتوش أو زخارف أو أوهام، يجد نفسه متطرفاً وهو لا يدري. كأن معرفة الحقيقة في زمن أضاليل الإمبريالية الخالص، تطرفٌ مذموم، غير مرغوب به، ويُحاسَب عليه. فليكن. ولاؤنا للحقيقة هو مُوصلنا إلى الحق.

ليست الأنفاق، بالأمر الهيّن، في تاريخنا القريب. لقد كانت ملحمة عظيمة منذ بدت فكرة، حتى تحقّقت في باطن الأرض، تجسيداً، وإلى أن صارت ما هي عليه اليوم، وسط معمعان المهالك الكبرى. إنها أيضاً رواية لم تنكتب بعد، عن سرّ المقاومة العظيم، لأن السرّ هو المعقل الأخير لكل الفقراء المقاتلين.

ها هم أبطالها من أولادنا يملؤون شبكية نصف العالم على الأقل 

ها هم أبطالها من أولادنا، يملؤون شبكية نصف العالم على الأقل، وها هي فرصة جيدة تولد أمامنا، لقراءة النفق بوصفه النص المستحدَث لنضالنا عبر قرن ويزيد.

مهما طال الزمن، لا بد أن يأتي يومٌ ويكتب عنها كتّابنا من أجل محبّي الأنساب العائلية المعقّدة، ولأولئك الذين يستمتعون بملحمة القصص الضخمة بين العوالم، إذ تمتلئ بأبطال الكفاح المحايثين. 

من تجربتي، أعرف أنَّ المقاتل، على غير ما يتصوّر سواد الناس، هو مزيج من حلو ومر وحار: ذكي ومرح، ولكنه ليس سطحياً على الإطلاق، كما هم أبناء التنظيم القديم الآيل للسقوط.

من تجربتي، أعرف أن مقاتل النفق، يتمتّع بموهبة خاصة تجعلنا نضع أيدينا على رؤوسنا إكباراً، وتجعلنا نفعل ذلك، في الوقت نفسه، بابتسامة ماكرة قليلاً، وبأمل في القلب ثمين.

فلتشملهم برحمتك يا رب، وبتوفيقك الذي هو توفيقنا، وحائط مصدنا، أمام عالم لا يريدنا فوق هذا التراب المقدس. هبهم عبقرية القفز في الوقت المناسب، ليمسحوا عن ظاهر أرضنا، تلك الحشائش السيئة الغريبة، ولو كانت في حجم معدني هائل، أو جسد جندي محصن.

هبهم كل المحلوم به، لتتقوّى عزيمتهم، وقد خانهم جيرانهم، إلا قلّة من الطيبين الأقحاح. 

هبهم وهبني أن أكتب قطرات حبر عنهم، فإني ككاتب مقتلع أعرف أن أوجه التشابه بين فنّ الوصف وفنّ الانتقام ستؤدي إلى مواقف إنسانية للغاية. 

وأعرف ان المطاولة، بعد سنوات، كالحياة نفسها، كأقصى وأقسى ما في الحياة نفسها، تحتاج إلى عزيمة وإصرار.. والمطاولة التي كالحياة لا تسمح لأي شأن فلسطيني أن ينتهي.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا



إقرأ المزيد