العربي الجديد - 12/18/2024 10:17:09 AM - GMT (+3 )
فيروز في حديقة بمنطقة الرابية قرب بيروت، 1972 (Getty)
بلغت فيروز التسعين الشهر الماضي، احتفت بالمناسبة حسابات متزايدة غلى مواقع التواصل الاجتماعي لا نعرف سنّ أصحابها، لكننا نتكهّن بأنهم من كلّ الأجيال. يحيّرنا ذلك الاهتمام في وقت كهذا، فيروز تستحقّه وتستحقّ أكثر منه، لكنّ البلد في حرب ليس مساوياً لها، حيث يتسيّد القصف والدمار والنزوح، فكيف تسنّى في ظرف كهذا الاحتفال بتسعينية فيروز؟ وكيف لم يقف القصف وما يثار حوله وبعده، وما يتداعى منه، خوف واستنفار تامّان، كيف لم يعميا على هذا الخبر، ولم يحولا دون وصوله إلى عشرات ومئات وألوف. قد يخطر أنّ الحرب لم تكُن عائقاً، بقدر ما كانت محفّزاً، إذ لم تُغطِّ على نبأ كهذا.
بالعكس يخطر أنها قد تكون سبباً في إشاعته، وتحويله إلى منصة وإلى عيد جامع. في لحظة كهذه يدعو القلق على مصير لبنان وأهله، إلى استعادة فيروز التي تنبري في الوقت نفسه لتكون رمزاً للبلد، واسماً آخر له. إنها بالنسبة للبنانيّين، بل ولبعض العرب، لبنان من قريب أو بعيد. لبنان بمنظومته ونموذجه وتوسّطه الثقافي والفنّي، كلّ هذا يجتمع في فيروز، ولها وحدها أن تكون مثاله، وأن تصدر عن تفاعله العضوي وتعدّده، وما يقرّ فيه، ويتناغم ويتكوّن منه. لعلّ هذا الاحتفال بتسعينية فيروز ينتمي الآن أكثر، إلى الظرف الذي يهدّد النموذج اللبناني بالتداعي، وربما بالزوال. ستكون فيروز عند ذلك صوت ذلك الـ"لبنان"، بما عناه لأهله وجيرانه. ستكون من النبضات الأخيرة لمشروعه، بل ستكون ملتقى البلد وما بشّر به في أولياته، وما قدمه من مثل ووعد. ستكون، على نحو ما، وصيته ودعواه. بل يمكنها في الوقت ذاته أن تكون مرثيّته، وربما عيده الأخير.
حين نحتفل بعيد فيروز فإننا نصلّي لما كانه لبنان
يُمكن لنا أن نعود إلى فيروز، لنتأمّل هكذا، بالصوت والكلمات والموسيقى، ما كانه لبنان أو ما كنّاه فيه، وما كان في يوم ملء طموحنا، وملء استشرافنا له، أي ما كانه المشروع اللبناني، كما خطر لمنظّريه ودعاته، لحظة فريدة من تزاوج وتراكب حضارات ومجتمعات وأزمنة. عروبة خاصة، وإسلام ومسيحية فريدان، وأصالة وحداثة. اليوم لا نعرف إذا بقي ذلك لنا، هل بقي لنا شيء منه؟ لكن بالتأكيد بقيت لنا فيروز.
من يستمع إلى فيروز، لن يكون سهلاً عليه، بما تناهى إليه من سماع موروث، أن يتشرّب هذا الغناء في ذائقته وفي قرارته، فهذا التزاوج والتراكب قد يكونان غريبين عليه. سيكون هذا اللحن المزدوج، وذلك الخروج الى أبعد ما ألفَه وما تربّى عليه، وتلك المنظومة المركّبة، سيكون ذلك فوق طاقته. السماع هنا جهد وإصغاء عميق، وملاحقة لما يطير إليه الصوت أو ما يقع عليه. وراء هذا الغناء واقعٌ أسبق من الواقع، وراءه وتيرة ليست كالوتائر التي اعتادها. لكن إذا تجاوز ذلك ستربّيه الأغنية الفيروزية مرّة ثانية، ولن يستطيع بعد ذلك أن يبقى ما كانه.
لن يستطيع عند ذلك أن تبقى له مطالبه الأولى، لن يبقى عند تربيته وسيبحث عن سماع آخر، هو أيضاً بذلك شخص آخر ووقت آخر. إذ إن أُغنية فيروز تأتي من حيث لم يكن تماماً، ليست بعيدة لكنّها مع ذلك مكان آخر. الكلمات هنا هي أيضاً صوت، بل الكلمات بما فيها من ذكريات وأشواق، وأشياء ومناسبات ومواضيع، هي جميعها في هذا الصوت الذي يحكي ويسترجع ويعلّم ويفكّر في ذات الوقت. إذ إن الأغنية الفيروزية، في حين أنها أصيلة، تبني أصالة جديدة.
لا نشكّ أنّ في هذا الغناء ما هو بلدي، لكن نفهم فوراً أن هذا بلدي جديد، أن البلدي يبني على غيره، إنه يعطي بلديته الخاصة، كما هو في نفس الوقت سيمفوني وأوبرالي، بل هو ذلك في نفس الوقت الذي يكون فيه غيره. الأغنية عند ذلك تملك دائماً ما تُضيفه، ما تعلمه، وما تُعيد رسمه. الكلمات، واللحن الذي فيها، وفي الصوت الذي يتغنّى بها، هناك ما يذكّر بابن الرومي في قصيدته وحيد المغنّية "تتغنّى كأنها لا تُغنّي"، أي أن الغناء يذهب الى أبعد ما يكون الغناء، إلى حين يكون الغناء شريك الصمت، وشريك الحنين، وشريك الحكي، فيما هو حقيقيّ، وما يخلق واقعاً آخر، أو جنّة من الواقع.
تُغنّي فيروز، وبعد قليل من سماعنا وتشرّبنا لها، نعرف أن هذا هو الغناء، أن ما تفعله بصوتها هو الأصل، هو الواقع وهو الحقيقة مقولة بدون أن تُقال. تتغنّى كأنها لا تُغنّي، لكن لبنان لم يعد كما هو، في الأقل لم يعد المشروع اللبناني في الأفق، وحين نحتفل بعيد فيروز بهذا الحماس، فإننا معها الآن نصلّي لما كانه لبنان، وعجز عن أن يبقى فيه. مع فيروز مرثيّتنا لهذا البلد الذي هو على غرار أغنية فيروز "بيبقى اسمك يا حبيبي واسمي بينمحى". على غرار أُغنية فيروز هذه، نعرف أن ثمة شيئاً امّحى، ولا نتّفق عليه، وليس له عندنا الاسم نفسه.
* شاعر وروائي من لبنان
إقرأ المزيد