العربي الجديد - 12/18/2024 7:06:04 AM - GMT (+3 )
سوريون يقفون فوق تمثال لحافظ الأسد في ساحة الأمويين بدمشق، 15 ديسمبر 2024 (Getty)
بعد فرار بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، بدأت عملية إزالة الصور والتماثيل، وتحطّمت التماثيل الكبيرة والجداريات في الساحات العامة، وفي ساحات المشافي والجامعات والمدارس، بينما رُمي بعضها في حاويات القمامة وديسَت بالأقدام. كانت هذه التماثيل والصور جزءاً من عملية تعظيم القائد التي انطلقت في عهد حافظ الأسد، وتواصلت في عهد ابنه بشار.
في عهد الأسد الأب، رسّخت هذه العملية ثقافة العبودية والطاعة والامتثال في سورية. وأصبح الجميع تحت إدارة الدكتاتور عبيداً يتحرّكون بنقرة زرّ، وكان لكلّ تابع زرّ خاص به. كما تأسست ثقافة إعلامية قائمة على النفاق والكذب، قادها وزراء إعلام أداروا عملية الإعتام. ولم تصدر في عهد الأسدين أي صحيفة أو مجلة مهمّة يمكن للقرّاء أن يثقوا بها مصدراً للمعلومات أو للكتابة الحرّة والفكر النقدي. وفي مرحلة ما، حدثت "معجزة إعلامية" بجهود شخصية، وتم إصدار "ملحق الثورة الثقافي"، الذي اختطّ مساراً مختلفاً يذكره معظم المثقفين في سورية، واحتفظوا بأعداده كأنها جواهر ثمينة. لكن الأجهزة الأمنية تدخلت على الفور ومنعت صدوره، رغم أن المواد المنشورة فيه غلب عليها الطابع الأدبي.
لم يرتقِ تعظيم بشار إلى مستوى تعظيم والده، رغم المحاولات الدؤوبة والملايين التي صُرفت لتجميل صورته. ومع تطور الأحداث، بدأت تظهر على الساحة شخصيات أُخرى في "الأيقونات" البصرية لعهد بشار، مثل الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لُقّب بـ "أبو علي بوتين". ولا شكّ في أن تعظيم بشار، وتحويله إلى أيقونة تم تعميمها عن طريق الصور، والتماثيل النصفية، والساعات التي تحمل صورته، والصور الفوتوغرافية واللوحات، عكس مزاجاً مختلفاً، وكان يخلو من الزَّخم حتى بين أتباعه. لأن بشار لم يكن في نظر كثير من ضباطه وصف ضباطه وجنوده بمستوى والده أو أخيه الراحل، وغالباً ما نُظر إليه على أنه ضعيف.
استراتيجية قامت على المُطاوعة بدلاً من الشرعية
كان من أبرز من درس ظاهرة تعظيم الرئيس حافظ الأسد عن طريق الأيقونات والرموز البصرية والعروض، الباحثة الأميركية وأستاذة العلوم السياسية في "جامعة شيكاغو"، ليزا ودين، في كتابها "السيطرة الغامضة"، حيث قالت فيه إن ظاهرة تعظيم حافظ الأسد كانت استراتيجية اتبعها النظام السوري، وقامت على المُطاوعة بدلاً من الشرعية. تم إنتاج هذه المطاوعة من خلال المشاركة الإجبارية في أشكال الامتثال الزائفة. وكانت هذه الظاهرة أداة ضبط تقوم على سياسة الخداع العام، حيث يتصرّف المواطنون "كما لو" أنهم يحترمون قائدهم. وتضيف ودين أن هذه السياسة قد تبدو غير عقلانية للوهلة الأولى، لكنها فعّالة سياسياً، إذ إنها تحدّد من هو وطني ومن هو غير وطني، وتفرض الامتثال من خلال المشاركة في الطقوس والعروض والمسيرات والمهرجانات التي ترسّخ معايير سيطرة الأسد. وتضيف ودين أن العروض تنتج حالة من الضبط، حيث تراقب الصور والتماثيل أجساد المشاركين المنتظمة في صفوف، ما يخلق استعداداً للطاعة السياسية. وشدّدت الباحثة أن هذا التعظيم لم يخْلُ من روح سخرية ونقد، كانت بمثابة مقاومة لإملاءات السلطة.
هذا التعظيم للأب وابنه وصل إلى طريق مسدود مع بداية الانتفاضة السورية، وانتشار الإعلام الاجتماعي والهواتف المحمولة. وانتهى تعظيم القائد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، بعد أن فرّ بشار حاملاً حقائبه المحشوة بالدولارات والسبائك الذهبية، كما يُشاع، وانطلقت عملية تنظيف المدن السورية من صور وتماثيل العائلة، التي عدّها معظم السوريين أوساخاً على الجدران وفي الساحات تحرسها الأجهزة الأمني، بل هناك من تبوّل عليها، ونُشرت الصور في الإعلام الاجتماعي لتعبّر عن رفض السوريين لحقبة اتسمت بالعنف والعسف والقتل الممنهج والعقاب الذي لا يرحم والتردي الاقتصادي.
اعتمد النظام السوري على الصور والرموز والتمثيلات البصرية لخلق صورة قوية ومركزية تعبّر عن قوته ومدى سيطرته. فالقائد لم يكن مجرد صورة أو تمثال، بل صار الدولة نفسها. ذلك أن تعظيم القائد من خلال التماثيل والصور والجداريات وأشكال أخرى من التمثيل البصري يمكن أن ترفعه إلى مكانة "مقدّسة"، وتصنع شخصية القائد المُلهم أو "القائد الإله". وتجلّى هذا تاريخياً في تأليه ستالين وموسوليني وهتلر. فالملصقات والتماثيل النصفية واللوحات تصوّر القائد بطُرق مهيبة تُضفي عليه قداسة، ما يدعم معصوميته وحضوره الكلّي. وهذه الأشكال لا تُصوّر القائد فحسب، بل تخدم في بناء هوية بصرية تعتم الحدود بين القائد والدولة نفسها. وليس هناك أبلغ من عبارة "سورية الأسد"، المنسوخة عن الشعار النازي "ألمانيا هي هتلر وهتلر هو ألمانيا"، للتعبير عن هذا التماهي بين القائد والدولة.
كأنّ الدكتاتور كان مجرّد صورة ملصقة على الجدران
يلعب هذا النمط من التعظيم أيضاً دوراً في شرعنة النظام الاستبدادي. فالأنظمة الدكتاتورية غالباً ما تستخدم هذا الأسلوب لفرض هيمنة النظام، وتشجيع المواطنين على قبول الوضع القائم. وتساعد الرموز البصرية في توليد إحساس بالنظام والاستقرار وتجعل النظام يبدو حتمياً وأبدياً، وتذكّر المواطنين دوماً بخضوعهم. وتصبح وسيلة للمراقبة والسيطرة النفسية، حيث يتم توليد إحساس بأنك تحت المراقبة. علاوة على ذلك، تعبئ الرموز البصرية الدعم للنظام وتحفز الفعل الجماعي، مثل المسيرات والمهرجانات التي تصبح الرايات والملابس فيها رموزاً موحدة ترمز إلى القوة الجماعية تحت سلطة القائد. ومن وظائف هذا التعظيم أيضاً قمع المعارضة وشرعنة هذا القمع. فالنظام يستخدم الرموز البصرية لتبرير العنف والحل الأمني ضد المعارضين، ويصوّرهم خونةً أو عملاء. وعندما يواجه النظام معارضين له، يتم تصويرهم تهديداً لاستقرار الدولة، كما فعل النظام السوري حين صوّر المتظاهرين ضده في بداية الحراك المدني أنهم إرهابيون وإسلاميون متطرفون قادمون لذبح الأقلّيات.
في عهد الرئيس الأب، تمحور التعظيم حوله وحده، فكان وحيداً في الصورة والتمثال النصفي والتمثال الكبير والنصب التذكارية والجداريات واللوحات والصور الفوتوغرافية. أما في عهد الابن، فقد صار هناك ثلاثة: هو وحسن نصر الله وبوتين، وأحياناً أربعة حين كانت تُضاف صور أخيه ماهر، وكانت هذه إشارة كافية إلى أنه لم يكن رجل دولة مستقلاً، بل كان تابعاً يترأس نظاماً أجوفَ من الداخل، ويتوكأ على عكازين: إيراني وروسي، كما وصفه المفكر العربي عزمي بشارة في حوار تلفزيوني بمناسبة سقوطه.
رحل بشار تحت جنح الظلام كأنه كان مجرّد صورة ملصقة على الجدران في سورية مزّقتْها ريح السياسة وتبدل التحالفات والمصالح وعنجهيته الأمنية وضيق أفقه السياسي. تحطمت تماثيل وصور ومنحوتات ولوحات عهد امتد لأكثر من خمسة عقود وديس عليها، كما لو أن المقاومة التي تحدثت عنها ليزا ودين في كتابها "السيطرة الغامضة" صارت أشد قوة وبأساً، ورمت سلاح السخرية والنقد كي تحمل معاول للتحطيم. ومع أننا لا نعرف ما الذي يخبئه المستقبل لسورية، نأمل ألا يتخذ التعظيم بالأيقونات أشكالاً بصرية جديدة وبلاغة إنشائية مستمدة من الموروث.
* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتّحدة
إقرأ المزيد