العربي الجديد - 10/3/2024 7:41:58 AM - GMT (+3 )
في روايته "في مدينة الظلال والأحلام"، الصادرة ضمن سلسلة "إبداعات عالمية" في "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب" بالكويت بترجمة إسماعيل عدي، يعود الكاتب التركي مراد غولسوي (1976) إلى فترة حسّاسة من أواخر عمر الإمبراطورية العثمانية؛ هي فترة "إعلان الحرية" عام 1908 وتقييد صلاحيات السلطان عبد الحميد الثاني الذي لُقّب بـ"السلطان الأحمر" بالنظر إلى ما امتاز به عهده من بطش.
شهدت هذه الفترة مجموعة من التعديلات الدستورية، هدفت إلى تحقيق المساواة بين مواطني السلطنة على اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والعرقية. ولتغطية هذا الحدث الاستثنائي في أراضي "الرجل المريض"، كما كان الغرب يطلق على الإمبراطورية التي أسهم في استفحال أمراضها، أرسلت صحيفة باريسية صحافياً فرنسياً من أصل تركي، هو فؤاد/ فرانك تشاوسون، في رحلة بحرية إلى إسطنبول؛ المدينة التي غادرها طفلاً هرباً من استهداف الأرمن بعد تنفيذهم عصياناً؛ حيث خشيت الأمّ الفرنسية على نفسها وطفلَيها بسبب خلفيتهم الدينية.
"نقطع آلاف السنين في اليوم الواحد"، يقول فؤاد مُلخِّصاً حاضر مدينة إسطنبول الذي يلامسه خلال تنقُّله بين أحيائها وضواحيها لتأدية عمله الصحافي، وهو يقصد بذلك أوّلاً البون الفكري الشاسع بين من يريدون المضيّ قُدُماً بالسلطنة نحو المستقبل من خلال الإصلاحات المتأثّرة بالنموذج الأوروبي التي ينادون بها، وبعض هؤلاء من العائدين من بلدان أوروبية جعلوا منها منافيَ اختيارية لهم، وبين المستفيدين من الفساد السائد، الذين يُعيدون نظام الحُكم قروناً إلى الوراء، ويرغبون في استمرار الصلاحيات المطلقة للسلطان، قبل أن يكون المقصود العمران أو المستوى الاقتصادي والمعيشي المتفاوت بين سكّان القصور من الطبقة الحاكمة وضيوفهم من الدبلوماسيّين والسيّاح الأجانب من جهة، والعتّالين والصيّادين وبقيّة الكادحين والمعدمين الوافدين من مختلف بقاع البلاد الواسعة والمفقرة من جهة أُخرى.
يتحوّل الهمّ العام الذي قدم الصحافي لتغطيته إلى همّ شخصي
ينظر فؤاد إلى مدينة طفولته بعينَي فرانك، نظرةً استشراقية غربية، يعبّر عنها بقوله: "ضوء الشرق إمّا يطلع على الأميرة النائمة، أو يلمع في سيوف البربر". يعيش الملذّات التي تسكن خيال الغربيّين عن مدن الشرق وناسه، ليغرق في الهموم والتساؤلات التي بدأت تؤرّقه، حيث رؤوس النرجيلة المفخّخة بما يجعل الرأس يدور، والأفيون، وتعدُّد الزوجات والعشيقات، وحلقات الدراويش والغلمان... يشترك في ذلك مع المصوّر مارسيل غريب الأطوار الذي أرسلته الجريدة معه، وتشارلز، الشابّ الإنكليزي الغني، وهؤلاء الثلاثة يعملون على إعداد كتاب ضخم يجمع كلّ القصص الأسطورية المنسية من ذاكرة المدينة، التي يصفها الأخير بأنّها "عاصمة العالم، مركز العالم، بوّابة العالم".
بالإضافة إلى الانقلابات والهزّات السياسية، تؤرّخ الرواية لأحداث وهزّات طبيعية أيضاً، منها الزلزال الذي ضرب مدينة ميسّينا الإيطالية وهدمها في 28 كانون الأوّل/ ديسمبر 1908، حيث تعيش إيزابيل، حبيبة فؤاد، التي تُخبره في رسالة بأنّها ستتزوّج قريباً لها وترحل معه خارج المدينة، فيطلب منها رفض هذا الرجُل وانتظار مجيئه إليها، فيتسبّب بقاؤها في المدينة بموتها. تأنيب الضمير الذي سيصيب فؤاد، يسبقه تأنيب آخر يتسبّب بتأخّره عن السفر إلى ميسّينا؛ حيث يكتشف أنّ وجود عائلته الصغيرة؛ أمّه الممثّلة المسرحية الفرنسية، وأخته فريدة/ فاليري، كان أحد الأسباب التي ضيّقت فسحة العيش على والده ودفعته إلى الانتحار. فعلى الرغم من تعمُّده الابتعاد عن كلّ ما يُذكّره بماضيه، بما في ذلك زيارة الحيّ الذي يقع فيه البيت الذي عاشوا فيه، يتحوّل الهمّ العام الذي قدم لتغطيته إلى همّ شخصي، إذ يجد فؤاد نفسه يغوص شيئاً فشيئاً في رحلة للبحث عن أصوله من خلال سيرة أبيه، وهي رحلة عامرة بالمفاجآت والصدمات التي تجعله يتمنّى لو أنّه لم يخضها.
يسعد فؤاد بمدى الشبه بينه وبين أبيه، من ناحية عملهما في الصحافة والكتابة والترجمة، وإتقان كلّ منهما اللغتين التركية والفرنسية، وفكرهما العلماني، لكنّه يصل عاجلاً إلى ما يخشاه ولا يجد مفرّاً من الوقوع فيه، وهو الاضطراب النفسي والذهني الوراثي، الذي أدخل أمّ والده إلى مصحة، ودفع والده إلى انتحار مشكوك فيه، أو تسبّب بمقتله من قِبَل من انزعجوا من أفكاره التقدّمية والتنويرية، وهو كذلك ما يجعل فؤاد يبقى في إسطنبول ويلجأ إلى خرائب بيت طفولته، حيث تعتني به من جديد مربّيته خالدة، التي تلجأ إلى الشيوخ ليقرأوا على رأسه، في حين يلجأ هو إلى الأطباء الذين سبق أن لجأ إليهم كلٌّ من جدّته وأبيه، من دون فائدة.
ورغم أنّها تسود معظم صفحات الرواية، إلَّا أنّ هذه الفترة المفصلية من التاريخ العثماني، التي شهدت خسارة السلطنة للأراضي التي كانت خاضعة لها في القارّة الأوروبية، وأسهمت في إنضاج جانب من الظروف التي أدّت إلى اندلاع الحرب العالمية الأُولى، ليست زمن الرواية الفعلي؛ إذ يبدأ كلُّ شيء عام 1968، مع عثور محام متدرّب على دفتر مكتوب بخطّ اليد باللغة الفرنسية عند أحد باعة الكتب المستعملة. يحوي الدفتر مسوّدات الرسائل التي كان فؤاد يكتبها إلى صديقه أليكس، وهو نزيل أحد مستشفيات الأمراض النفسية في فرنسا، الذي قليلاً ما يسمح له وضعه الصحّي بالردّ. ما نقرأه على امتداد الرواية إذاً هو رسائل من جانب واحد، ما يجعل الرواية أشبه بالمذكّرات. ونظراً لأهمّيتها التوثيقية ورصدها تفاصيل من مرحلة تاريخية هامّة، يختار المحامي أن يترجمها من الفرنسية إلى التركية، من دون أن ينجح في نشرها حتى بعد مضيّ ثلاثين عاماً على عثوره عليها، بسبب تعرُّض الدفتر الفرنسي للسرقة، ما يُفقد الترجمة القيمة التي منحها لها الأثر الأصلي.
لكن لماذا كل هذه التباعدات الزمنية والديباجات؟ يبدو هذا سؤالاً مشروعاً. لعلّ الجواب يكمن في رغبة الكاتب في رصد التغيّرات السياسية التي طرأت على نظام الحُكم في تركيا خلال السنوات المشار إليها؛ من تمزيق جسد السلطنة من الداخل بين مؤيّدي السلطان ومعارضيه، مروراً بالفترة التي أرسى فيها مصطفى كمال أتاتورك نظاماً أقرب إلى النموذج الغربي العلماني، وصولاً إلى بدايات صعود نجم رجب طيب أردوغان في أواخر التسعينيات، عندما كان ما يزال يؤسّس "حزب العدالة والتنمية" ذا التوجّه الإسلامي، قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، ثمّ رئيساً للجمهورية بعد نجاحه في تغيير نظام الحُكم من خلال التصويت الشعبي.
* كاتب من سورية
إقرأ المزيد