العربي الجديد - 10/2/2024 11:36:46 PM - GMT (+3 )
جانب من السيمنار (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)
يسعى مبحث تاريخ العلوم إلى دراسة تاريخ المعارف العلمية وتفاعلها مع المجتمع والثقافة، وهو حقل منتشر في جامعات العالم، بيد أنه يعاني في الوطن العربي من إهمال شديد، رغم امتلاك الثقافة العربية المعاصرة تقاليد علمية ثرية عبر تاريخها الحضاري.
هذا المدخل التاريخي العلمي هو مفتاح كتاب يتعلق بتاريخ العلوم في فلسطين، يرتقب صدوره مطلع العام المقبل لمحمد أبطوي الباحث المغربي في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ومنسق مشروع الموسوعة العربية "أرابيكا" التي ستتضمن هذا المبحث لسد هذه الثغرة الكبيرة.
شكّل مشروع الكتاب موضوع السيمنار الذي عقده المركز ظهر اليوم الأربعاء بعنوان "حلقات من تاريخ العلوم في فلسطين: المعارف العلمية في التاريخ الفكري الفلسطيني". وعقّب على السيمنار الباحث في تاريخ الرياضيات التونسي فؤاد النفطي، وقدمه وأدار النقاشات الباحث في المركز هاني عواد.
وبحسب ما ذكره أبطوي، فقد لمعت فكرة الكتاب إبان العدوان الإسرائيلي على غزة في أيار/ مايو 2021، وهو ثمرة عمل جماعي لعلماء وباحثين من دول مختلفة، يقدم عبر 15 مقالة. هذ الممارسات العلمية في التاريخ والفلك والرياضيات والعمارة والطب والنبات والدراسات العلمية، من القرن الثالث عشر ميلادي إلى القرن السابع عشر، أي منذ بداية العصر المملوكي إلى العثماني.
وتبعاً لما شرحه المُحاضر، فإن الكتاب في بابه الأول يضم مجموعة مقالات للباحث الفلسطيني نور مصالحة عن تاريخ فلسطين، تليها مقالة مؤرخ العمارة الإسلامية السوري ناصر الرباط التي تدرس كتاب "فضائل بيت المقدس" لأبي بكر الواسطي، والثالثة مترجمة عن الفرنسية تتعلق بالوصف الجغرافي لفلسطين الذي ورد في كتاب "المسالك والممالك" للجغرافي الأندلسي أبو عبيد البكري (1014- 1094) ميلادي.
في الباب الثاني ثلاث دراسات في علم الفلك وهي الوحيدة الموجودة في فلسطين، تتعلق بعلوم الفلك في القدس للمؤرخ الأميركي ديفيد كينغ، ثم قيم الاتجاه نحو القبلة في مدن فلسطينية عديدة تبعاً لمخطوطات من بينها مخطوطة العالم الكركي، ومقالة علمية معمارية تتعلق بساعة شمسية (مزولة) محفورة على الجدار الغربي للمدرسة السلطان قايتباي في القدس.
في الباب الثالث مقالتان حول العالم الفلسطيني المصري ابن الهائم (1352 - 1412) الذي اشتهر باسم المصري المقدسي، وجاءت مساهمة أبطوي في هذا، متناولة هذا العالم الذي عاش في القدس ودرس وألف لدى اشتغاله في المدرسة الصلاحية، وخصوصاً كتابه "المقنع في الجبر والمقابلة" المعروف باسم أرجوزة "لامية ابن الهائم"، أي نظم هذا البحث العلمي شعراً.
ورغم ما تركه ابن الهائم من كنوز علمية رياضية تُرجمت إلى لغات مختلفة وما زال بعضها مخطوطاً، إلا أن أبطوي لم يغفل تثبيت ملاحظته التي تتعلق باضمحلال الجدة والأصالة العلميتين في هذه الحقبة التاريخية وما تلاها، مسترجعاً مقولة ابن خلدون الذي هاجم هذا النهج المشير إلى التراجع العلمي.
وفي باب العمارة أربع مقالات واحدة منها كُتبت خلال الحرب الجارية الآن على غزّة، وتعلق بثلاثة معالم دينية في غزّة؛ هي كنيس يهودي اندثر وبقيت بعض فسيفساء منه في موقع بجانب بحر غزّة، وكنيسة برفيريوس، والمسجد العمري، علماً أن الكنيسة والمسجد تعرّضا للقصف في العدوان الأخير.
في باب الطب والنبات مقالة تتناول كتاب "مادة البقاء في إصلاح فساد الهواء والتحرر من ضرر الأوباء". والكتاب الذي ألفه المقدسي محمد بن أحمد التميمي، إنجاز مبكر منذ القرن العاشر الميلادي لما يُعرف اليوم بالهندسة البيئية، وقد أحيط باهتمام خاص خلال جائحة كورونا، ومقالة مشتركة لباحثين تركيين بعنوان "طوبونيميا النبات" في فلسطين انطلاقاً من وثيقة فرنسية.
وفي باب الدراسات العلمية تقديم لصورة العلوم المعاصرة، تتعلق بثلاث شخصيات قدمت إسهامات في هذا الحقل النشط في تاريخ وسوسيولوجيا العلوم وعلاقته وأثره في المجتمع.
أول هذه الشخصيات التي عرضها المحاضر هو قدري حافظ طوقان، وهو من أوائل مؤرخي العلوم العرب، وكان كتابه "تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك" ملهماً لأجيال لاحقة منذ نشره في القاهرة عام 1941.
وثانيها هو مؤرخ الرياضيات أحمد سليم سعيدان، الذي أسهم ليس فقط في الكتب والدراسات العربية، ولكنه كان أحد المساهمين في جعل تاريخ الرياضيات المكتوب بالعربية حقلاً متخصصاً في تاريخ العلوم، باللغتين العربية والإنكليزية.
والشخصية الثالثة هي أنطوان زحلان عالم الفيزياء الذي رأس قسم الفيزياء في "الجامعة الأميركية" ببيروت، وأسس سنة 1969 الجمعية العلمية الملكية في الأردن، وهو عبر سلسلة واسعة من الكتب دعا إلى ضرورة أن يتبنى العرب منظومات علمية وتكنولوجية مستقلة لتحقيق التنمية المستقلة، ومن ذلك كتاب "العلم والتكنولوجيا في الصراع العربي الإسرائيلي" وكتاب "العلم والسيادة".
في تعقيبه، اختار فؤاد النفطي من موقعه المتخصص في تاريخ الرياضيات شخصية الرياضي والفقيه والشاعر ابن الهائم التي يتضمنها الكتاب، وقال إن الجبر شهد على مر التاريخ شذرات فرعونية وفي بلاد ما بين النهرين، بيد أنها لم ترقَ إلى تكون علماً إلا في القرن التاسع الميلادي على يد الخوارزمي، الذي أسس علم الجبر ثم لحقه علماء طوّروا المعادلات الجبرية، وبالتالي المعجم الجبري، وكان ابن الهائم هو ابن هذه المرحلة التي تصاعد فيها ازدهار هذا العلم وكان له نصيب في ذلك.
ولفت المُحاضر محمد أبطوي، ضمن المناقشات، إلى أن المخطوطات العلمية في غالبيتها وخصوصاً التي تتعلق بالعلوم الصورية كالرياضيات والفلك حققت على يد الأوروبيين. وفي هذا السياق نفى وجود استشراق تجاه العلوم العربية الإسلامية، إذ أن هذا الاهتمام بهذه العلوم نشأ في سياق فلسفة الأنوار، لمحاولة بناء العلم الإنساني، وذلك قبل أن تصل العلوم في الغرب إلى المرحلة الإمبريالية.
وختم بأن هذا الكتاب يندرج ضمن منظومة تتفرع منها عدة مجالات تدفع إلى تحفيز الشباب على الانخراط في تعاطي العلوم وإعادة الثقة التاريخية للنفس، إذ ليس من المقبول ألّا تجد مبحثاً جادّاً بالعربية عن قامة علمية كالبيروني، بينما تجدها بكل تقدير في موسوعة أجنبية.
إقرأ المزيد