الترجمة في ذاتِها
العربي الجديد -

أمبرتو إيكو، مونتي تشيرينوني بإيطاليا، 2 أيلول/ سبتمبر 2007 (Getty)

يتكاثر عدد المترجِمين، يوماً بعد يوم، لأسبابٍ عديدة، منها الطلب المتزايد للمجتمع القارئ من جهة، وإلحاحُه على أن يواكب الجديد في الإبداع والفكر والعلوم في مختلف الثقافات والبلدان من جهة أُخرى، فضلاً عن الاستجابة السريعة للناشرين، ببحثهم عن أرفع الأعمال التي تُلبِّي طَلبات السوق، وعن مترجمين جُدد، وتشجِيعهم على التعامل معهم بالانخراط في مشاريع مؤسَّساتهم، بالإضافة إلى استمرار تعاملهم مع أجود ما لديهم من مترجِمين.

ويكتشف الناظر في حال هؤلاء المترجمين أنهم قد وفدوا على الترجمة من حقول معرفية متنوِّعة، وأنهم من خرّيجي مدارس الترجمة وكليّاتها المختلفة، وحتى من مهن لا يُتَصوَّر أن مُزاوِلها قد ينخرط في هذا النشاط الوسيط بين الثقافات، مِثل طبيب الأسنان المترجم العراقي علي عبد الأمير صالح.

وعادةً ما يتفطَّن الكثير من هؤلاء المترجِمين إلى نزوع في ذاتهم لممارسة الترجمة، باكتشافهم في نفوسهم الكفاءةَ في اجتراح هذا النشاط، فيخوضون في نقل الأعمال باقتدار متفاوت، وقد يُبرّزون في عملهم، فيصيرون مرجِعاً أساسياً بالنسبة إلى القارئ الذي يجد المتعة في القراءة لمترجم بعينه، فتَجدُه يسأل عن نصٍّ مُعيَّن بترجمة ذاك المترجِم دون غيره، كحال طلبه الروايات التي ترجمها الراحل صالح علماني الذي تحوَّل من الطبّ إلى الترجمة؛ مثلما قد تتَّخذُ بعض دور النشر، هي الأُخرى، هؤلاء المترجِمين المتميِّزين هدفاً لها، فتتّصل بمن تتحقَّق فيهم معاييرُها، لكي يُسهِموا في مشاريعها، بِحُكم اطمئنانها إلى جودة عملِهم.

إبداء رأي في الترجمة شيءٌ، وصياغة نظرية لها شيءٌ آخَر

واللافت أنّ من القرّاء من يَجرُؤ على إبداء رأيه في الترجمة، وكذلك نقّاد الأدب والفكر، ومن حقّ الاثنَين أن يكون لهما رأيٌ فيها، لكنّ إبداء رأي في الترجمة شيءٌ، وصياغة نظرية لها شيءٌ آخَر، على اعتبار أن اقتراح نظريّة يقتضي من المهتمّ بها دراية بمُمارستها وما يكتنفُها من صعاب ومشاكل، وما تُثيرُه من قضايا.

ولا غرو أنّ صوغ نظرية في الترجمة ليس تَرَفاً معرفياً أو عملية تقنية، وإنما هو تفكير ينبثق، بالتأكيد، من تفاعُل مع سياق ثقافي وتاريخي تَسود فيه أفكار وممارساتٌ معيَّنة، تَكون ذات صلة وثيقة بالمشكلات التي تُطرَح على المترجِم عند نقله لعمل أو عند وقوفِه على مُشكلة في بعض النصوص المترجَمَة، فيُعمِل النظر في طبيعة تلك المُشكلة، ويحرص على أن يُراعي السياق التواصلي، لكي ينتهي إلى اقتراح حلّ يتّسم بالقَبول.

وعلى الرغم من كثرة المترجِمين، ومن كثرة حديثهم عن الترجمة، فإن أقوالهم هذه يُستأنَسُ بها لا غير، أي أنها تبقى أقوالاً لا ترتقي إلى مستوى النظرية، ما دامت الأخيرةُ صياغةً متماسكة تخوض فيها قلّة، وتقوم على مصطلحات ومفاهيم يُتوسَّل بها لتجويد التواصل بين المُشتَغلين في المجال، بغاية الارتقاء بالمنتَج الترجمي، وأنَّ ظهورَها يقترن بوجود تباين بصدد الحلول المقترَحة لإيجاد حلول لمشاكل تطرحها الترجمة، وعلى هذا الأساس، يكون ما قدّمه الجاحظ من آراء في الترجمة تنظيرات وليس نظرية، فالمعروف عنه أنه لم يَكن يتكلّم لغة غيرَ العربية، وأنه لم يُترجِم كتاباً، ومع ذلك فقد أبدى في شأن الترجمة أفكاراً مهمّة للغاية، لم يكنْ قد طُرِح إلى حدود وقته، وبعدَه إلى العصر الحديث، ما يُعادلها وعياً وعُمقاً وقيمة.

في الواقع، تصدُر نظريات الترجمة عن هاجس معرفي يشغل بال المهتمّ بها، وبذلك تَكون الترجمة جِماعاً من الخبرات والإدراكات التي تتشكَّل في ذهن المتلقّي عن كثير من النصوص المترجَمة، فينتقل إلى وصفها، وإلى إبداء ما يَعِنُّ له في شأنها، انطلاقاً من خِبرته في الترجمة ممارَسةً، ولذلك نجد الأسماء الكُبرى التي نظَّرت للترجمة مثل والتر بنجامين، وبُول ريكور، وهنري ميشونيك، وجورج ستاينر، وأمبرتو إيكو، وغيرِهم، قد خاضوا في التنظير من مُنطلَق التفكير في تجربتهم وتجارب الآخرين، بمعنى أنّ نظرياتهم هي منتَجٌ ذو ارتباطٍ وثيق بالتجريبيّ والملموس في عملهم وعمل غيرهم.

* أكاديمي ومترجم من المغرب



إقرأ المزيد