العربي الجديد - 10/1/2024 8:25:20 AM - GMT (+3 )
إن عدد الطبعات التي صدر فيها كتاب "العنصرية" للكاتب التونسي ألبير ميمي (1920-2020)، منذ طبعته الأولى سنة 1982 إلى اليوم، يدلّ على أهمية هذه الدراسة (224 صفحة) وتجدّد أفكارها ومواكبتها لمراحل التاريخ والزمن. وبذلك فالكتاب الذي صدرت منه طبعة جديدة عن سلسلة "فوليو" لكتاب الجيب (غاليمار)، لا يزال يمثّل سلطة فكرية بين الدارسين.
وُلد ألبير ميمي في "الحارة"، الحي اليهودي في تونس، لأب يهودي إيطالي وأم تونسية يهودية. عندما احتل الألمان تونس، تم حبسه في معسكر عمل قسري قبل اللجوء إلى الجزائر. بعد الحرب، قام بالتدريس والحملات من أجل استقلال تونس، ولكن، رفضته الدولة الجديدة بصفته يهوديا، واستقر في باريس حيث كانت لديه مكانة ناجحة في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا.
"العنصرية هي التبخيس المفيد لقيمة الاختلاف" أو، بشكل أكثر تقنية، "العنصرية هي تثمين الاختلافات الحقيقية أو الوهمية، بشكل عام ونهائي، لصالح المتهم وعلى حساب ضحيته، من أجل إضفاء الشرعية على العدوان". منذ حوالي ثلاثين عاماً، اقترح ألبرت ميمي هذا التعريف للعنصرية، والذي تم استخدامه منذ ذلك الحين على نطاق واسع من قبل الباحثين والأساتذة في كل المؤسسات التعليمية. كما أن هذا التعريف الحادّ لم يتوقف قط عن إثراء وتوضيح تفكير الكاتب التونسي في العنصرية، على امتداد العديد من النصوص، سواء كانت فكرية، سياسية أو روائية.
وظيفة العنصرية تحديد الهيمنة وإضفاء الشرعية عليها
سنجد في هذا الكتاب، بالإضافة إلى المكانة المركزية للعنصرية في فكر المؤلف، قطبي هذا التعريف: العلاقة الوثيقة بين العنصرية ومفهوم الاختلاف ("العنصري"، كما يكتب، "يدّعي دائماً استخدام بعض الاختلاف للاستفادة منها")، ومن ناحية أُخرى، القرابة بين العنصرية والقمع ("العنصرية هي رمز وملخّص لكل اضطهاد"). وفي الأخير يطوّر المؤلف، بحجج جديدة، تمييزه بين العنصرية، التي يقترح حصرها بدقة في المعنى البيولوجي، ورُهاب المغايرة، والرفض العدواني للآخرين، والتي ستكون العنصرية بها ليست سوى حالة خاصة.
في هذه الدراسة، كما هو الحال في جميع كتاباته، يتساءل ألبير ميمي عن العنصرية التي استمد منها تعريفاً موجزاً وثابتاً. ماذا يقول لنا من جديد؟ إن العنصرية هي تثمين الاختلافات، المعممة والنهائية، الحقيقية أو المتوخاة، لصالح المتّهِم وعلى حساب ضحيته، من أجل تبرير عدوان أو امتياز.
إنه يعترف بأنّ "الاشتباه في الأجنبي والمختلف كان موجوداً دائماً". هذا الاشتباه في الأجنبي هو في الواقع عالمي ومفهوم تماماً: في مجتمع ريفي تقليدي، قائم على احترام عادات الأسلاف، يظهر الأجنبي كإلكترون حرّ، كائن مستقل عن أي ارتباط وبالتالي يميل إلى رفض الاتفاقيات العرفية. لذلك من الطبيعي أن نكون حذرين منه لأنه عنصر مقلق محتمل (سيقول البعض إن الاضطراب هو مصدر للتقدّم وأن التقدم مفيد، لكن هذه قصة أخرى).
إن تحليل ألبير ميمي معيب بسبب عدم التمييز بين الشعور الفردي الذي يقود الجميع إلى عدم الثقة في الغريب، والاستغلال الضار لهذا الشعور الذي يمكن أن يصنعه كيان جماعي: فالخوف من الآخرين والحدّ من قيمتهم أو احتقارهم هما نقطتا ضعف متأصلتان في النفس البشرية. يميل الأشخاص غير الراضين، ضحايا جبنهم، إلى تبرئة أنفسهم من خلال إلقاء اللوم على الآخرين لفشلهم واستيائهم وعدوانيتهم، هنا يمكن النظر إلى أطروحات هنري لابوريت حول الوظيفة الصحية للعدوانية. ولابوريت هو طبيب تخدير وجرّاح فرنسي بنى تدريجياً رؤيته الخاصة للسلوك البشري والعوامل البيولوجية التي تحدّده، قد نأسف لذلك، لكن هذا هو الحال.
لكن ما هو مأسوف عليه ويمكن تجنّبه هو أن هذه المخاوف يتم استغلالها، وتنظيمها من قبل بعض الأيديولوجيات.
إذا كان كل شيء عنصرية، فلا شيء عنصرية بعد الآن
يذكّرنا ألبير ميمي بوضوح: "العنصرية لها وظيفة: في الأساس، هي تحدد الهيمنة وتضفي عليها الشرعية". إن هيمنة مجموعة من قبل مجموعة أخرى هي في طبيعة العلاقات الإنسانية. لكن هذه الهيمنة لا تقتصر على الاختلافات العرقية. فالمرء إما أن يهيمن عليه أو يهيمن عليه انتماؤه الطبقي أو القومي أو الديني أو الجنسي أو اللغوي أو العرقي. كما يمكن للمرء أيضاً أن يكون كليهما في نفس الوقت، على سبيل المثال يُهيمَن عليه بوصفه بروليتارياً ومهيمِناً كذكر. هذه الازدواجية تسمح للجميع بتحمّل حالة القهر.
من هذه الناحية فإن الهيمنة تغطّي مجموعة واسعة جداً من الحالات التي تتجاوز إطار العرق بالمعنى البيولوجي. وبالتالي فإنها تنطبق على العلاقات بين الكاثوليك والبروتستانت في أولستر (أيرلندا الشمالية)، أو بين البراهمة والداليت في الهند، إلخ. إن توسيع مصطلح العنصرية ليشمل كل هذه المواقف يعني إفراغه من معناه: إذا كان كل شيء عنصرية، فلا شيء عنصرية بعد الآن.
لا بدّ من ذكر هذا الأمر الهام: إن الصلة التي يعقدها ألبير ميمي بين العنصرية والهيمنة لا تنطبق على معاداة النازية للسامية! في البداية، في عام 1918، لم تكن هناك علاقة هيمنة من قبل الآريين الألمان على اليهود. على العكس من ذلك، تم دمج هؤلاء الأخيرين بشكل جيد للغاية في الطبقات العليا من المجتمع الألماني، وبشكل عام كانوا أيضاً موضع تقدير كبير من قبل مواطنيهم. على الأكثر، عانوا من التحيز والسخرية من قبل الباريسيين مثلاً تجاه البريتونيين أو الأوفيرنات.
لم تمرّ أفكار ميمي المصرّح بها والمضمّنة في الكتاب دون نقد أو مراجعة. ففي عدد الرابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 من مجلّة herodote.net المتخصّصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية قدّم المؤرّخ والصحافي الفرنسي أندري لاراني عرضاً للكتاب وانتقد مجموعة من الأفكار في كتاب وفكر أ. ميمي. إذ قال إنه عند قراءة هذا العمل الرائد في تفكيك العنصرية، يشعر المرء بالحرج من حقيقة أن المؤلف يقتصر على الخلط بين العنصريين والغربيين البيض والمسيحيين. حتى أكثرهم سخاء هم، حسب قوله، عنصريون لا يعرفون أنفسهم! من ناحية أخرى، فهو لا يتصور أن الآخرين (السود واليهود، إلخ) يمكن أن يكونوا هم أنفسهم عنصريين، إلا في رد فعل على العنصرية البيضاء المسيحية الغربية بصفتهم مضطهدين إلى الأبد.
لقد اقترح ألبير ميمي، منذ حوالي ثلاثين عاماً، هذا التعريف للعنصرية، والذي تم استخدامه منذ ذلك الحين على نطاق واسع من قبل الباحثين. لم يتوقف قط عن إثراء وتوضيح وتفكيك العنصرية والعنصريين في كل الثقافات والديانات.
لكن، من الناحية النفسية، إن العنصرية هي رهاب المغايرة: "رفض الآخرين باسم أي اختلاف". يشير هذا المصطلح إلى الخوف المنتشر والعدواني من الآخرين الذي يمكن أن يتحول إلى عنف جسدي. العنصرية هي تعبير خاص عن رهاب المغايرة. "العنصرية هي التبخيس المفيد لقيمة الاختلاف" أو، من الناحية الفنية، "العنصرية هي تثمين، معمم ونهائي، للاختلافات الحقيقية أو الوهمية، لصالح المتهم وعلى حساب ضحيته، من أجل إضفاء الشرعية على العدوان". وهذا ما لا نكف اليوم على ترديده جميعاً أمام أفعال العنصرية في العالم، تجاه الفلسطينيين، والمهاجرين على امتداد أوروبا، والسود في أميركا، وباقي الرقع الجغرافية التي ترتكب فيها العنصرية على مدار الساعة. وذلك ما يجعل كل من كان ضحية لعنصرية معينة، مديناً لألبير ميمي بهذا التفكيك وهذه المعالجة الفلسفية اليقظة.
إن تعريفه المدهش، الذي قدمه في الكنيسة سنة 1964، وتمّ اعتباره تعريفاً تفكيكياً مرجعيّاً في الموسوعة العالمية، يشكل توليفة رائعة للعناصر المكوّنة للموقف العنصري: الإصرار على الاختلافات، سواء كانت حقيقية أو وهمية، وتثمينها لصالح العنصري، وإضفاء الطابع المطلق عليها من خلال التعميم ومنحها طابعاً نهائياً، وأخيراً، استخدامها ضد الآخرين من أجل الاستفادة منها. وبذلك نجحت الدراسة في توضيح التكامل بين رفض الآخر وتعزيز الانتماء إلى المجموعة، وما يتبع ذلك من نتائج.
لقد أضفى الكتاب قيمة توضيحية لمفهوم العنصرية، فكراً وممارسة، ولم يقتصر على مجال الاختلافات البيولوجية، بل على العكس من ذلك، شدد على طابعها متعدد الأشكال: "في الواقع، الاتهام العنصري في بعض الأحيان يبدأ بالبيولوجيا، وأحياناً بالثقافة، ثم يُعمَّم على شخصية المتهم وحياته ومجموعته. في بعض الأحيان تكون السمة البيولوجية متردّدة أو حتى غائبة. باختصار، نحن نواجه آلية أكثر تنوعاً وبلا حدود، وأكثر تعقيداً، وللأسف أكثر شيوعاً مما قد يقودنا مصطلح العنصرية الصارم إلى الاعتقاد".
* شاعر وروائي ومترجم من المغرب
إقرأ المزيد