تاريخ تكتبُه الإبادة
العربي الجديد -

لوحة مرسومة على حطام مبنى دمّره العدوان في خانيونس، 29 أيلول/ سبتمبر 2024 (Getty)

التاريخُ الذي تكتبُه "إسرائيل" للعرب في هذه المرحلة من الربع الأول للقرن الحادي والعشرين مُذلٌّ وفاجع. فاجعٌ لأنّها تسطّره للدول العربية على مقاسها، بما يخدم مصالحها وسياستها الصهيونية في الاحتلال والإبادة والتوسّع، كاتبةً أعوامه وحِقبه بدمٍ عربيٍّ تستبيحه في فلسطين ولبنان وسورية واليمن، وقريباً في بقية بلدان المنطقة.

مذلٌّ لأنّ الأنظمة العربية المُستسلمة وقائياً بالكامل، والمُطبّعة علناً أو ضمنياً، تمنح "إسرائيل" حرية ممارسة الإرهاب وارتكاب الجرائم والاغتيالات وقتل الأطفال والمدنيّين والمواطنين، فتُشاركها بذلك "قيمها" في الاستهانة بـ الإنسان العربي، والتنكيل بكرامته وحقوقه وحرياته.

ما يزيد من هول الفاجعة ومرارة الخضوع هو أنّ الأنظمة العربية -سواء كانت مستسلمةً أم منددةً متآمرةً ومتعاونةً صامتةً، أم حتى مُطبّعةً معروفةً- لا تختلفُ في الجوهر عن الأنظمة الغربية التي تندّد وتشجب وتحذّر وتصمت، لكنها تتآمر ولا تفعل شيئاً حقيقياً لوقف الإبادة. فبماذا تختلف هذه الأنظمة العربية عن مثيلاتها في الغرب الذي تنتقده؟

بين الخضوع والفاجعة ما يثير الضحك المُبكي. بمراجعة بسيطة لأحلام العرب في الوحدة والحرّية والاشتراكية والتحرّر والتطور والانفتاح، لن نرى إلا مزيداً من التجزئة والتبعية والعبودية والفقر والبطالة والسيطرة والرأسمالية.

في هذا كلّه، ما يحيّرني وأعجز عن إيجاد جوابٍ له: من أين تأتي هذه القدرة عند الأنظمة العربية على مراقبة ما يحدث بصمت وقبول هذا الامتهان الذي تمارسه "إسرائيل" بحقهم، وبحقّ الإنسان العربي؟

بين الخضوع والفاجعة ما يثير الضحك المُبكي

صار مؤكّداً أنَّ الحضور العربي لم يعُد يشكّل تهديداً على "إسرائيل"، ربّما في غياب العرب تهديدٌ أقوى، وفيه ما يؤدّي إلى زوال الاحتلال! يبدو أن براعتنا، نحن العرب، تكمن تحديداً في هذه "القدرة الإلهية" على محو بعضنا البعض، ذاتياً وجماعياً، من أجل محو العدو!  

■ ■ ■

أمس حلمتُ أنني من كتبَ هذه الكلمات: مشطوراً في جسدٍ لا يسكنُ حيث وُلِد، وروحٍ لا ترتوي من أي سماء. أشعر أنني أعمى في هذا العالم المُسافر. كيف أخرجُ من نفسي؟ وفي أي بيتٍ أُقيمُ؟ ولماذا لا أصلُ وإلى أين؟ وهل من شيء أستند عليه غير العكاكيز؟ 

أحلمُ بجناحي فراشةٍ هربت لتوّها من اللهب. تحت أظافري أرانبُ لا تكفّ عن القفز. الأسرّة مريحةٌ وطبول الجماعة لا تقرع أناشيد الأرق. الكل نائمٌ، والأقفاص بلا نهاية. 

هل من هاتف يصوّر هذا النجم الذي استيقظ للتوّ؟ هل من مكتبةٍ تتسع لِسوائل الإبادة؟ لغةٌ لا تقول إلا المقابر أو محيطات من الدم. هل لي أن أسأل:

من سجنَ الهواء في الكتب؟ من اعتقل الخطوات عن جسور الغبار؟ أسناني مضطربة ولساني لا يستطيع إلا أن يهمس: لا ملجأ لي منكم. لا ملجأ لي في الخارج. الرئة التي تتنفس في جسدي انكسرت قصباتها. العظم الذي يحمل ظهري نخره السوس. الريح لا تميّز بين الجهات. الروح لا تشعر حتى بالحجر. كلُّ الذين أُخاطبهم فقدوا آذانهم. هل من أحدٍ يسمعني: لم أعد قادراً على نقل الشمس في عربة الطفولة. جسمي غير مرتاحٍ وأصابعي لا تلمس غير الرمل. من أين لظهري هذه القدرة على حمل ظلمات الأرض؟

جروحي لا تلتئم. أسيرُ. أراها أمامي، بين عينيّ، في هيئة ورق يتبلّل بما تبقى من دمعي. من أين تختبئ في أجسادنا هذه القدرة على تحمّل السلاسل؟ وهل من شيء جديدٍ نقوله اليوم للحقيقة غير الموت؟


* شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا



إقرأ المزيد