العربي الجديد - 9/30/2024 8:47:44 AM - GMT (+3 )
1
على تَلَّةٍ في خانيونس، حيثُ حُطامُ بيتي، جلستُ، وبينَ يديَّ المدينةُ، أَتصفّحُها حَجرًا حَجرًا، وأبحثُ فيها عن قطعةٍ من قماشٍ لم تحترق، لأُرقِّعَ بها ثوبي الذي مزَّقتهُ الشظايا، ولاحتهُ ألسنةُ اللهب. وعلى وقعِ صرخةٍ يَرفَعُها اللّيلُ إلى الأعالي، وبالقربِ من بَحرٍ تَجيءُ منه تهويدة امرأةٍ تُبحرُ في سَهَرِها، أرخيتُ رأسي على الريح، رايةً لم تنتكس بعد، وأغمضتُ عينيَّ، ليسَ نومًا، بل سفرًا آخرَ وحدي إلى الجنوب.
2
أنا حنظلة يا جنوب، أَصِلُكَ على بُراقٍ لا يعرفُ الطريقَ إلّا إليك، ويدايَ خلفَ ظهري، أتمزَّقُ كما العادة على هذه المقتلة. نازلٌ عن جبلٍ يُضيءُ عتمتهُ الفادي، ماشيًا بين شجرةِ تينٍ وزيتون، وواصلٌ إلى حجرٍ لا يرقُّ وعناده كامنٌ في النار.
دمُ من؟ صوتُ من؟ يدُ من هذه التي ترجمُ الشياطين؟
3
أنا حنظلةُ يا ربّ، إخوةٌ أعداء خلفَ ظهري، يغرزونَ فيه نظراتهم وشتائمهم، صمتهم وتفرّجهم، خوفهم وانعقاد ألسنتهم. خلفهُ أرمي أُمّةً مُشمَّعةٌ آذانها، مُحْوَلةٌ عيونها، غائرةٌ في الرَّملِ أمام أوثانها، ولا ألتفت. وجهي حيثما تبرقُ السماء، فيلمعُ البرقُ في بؤبؤ الوحشِ ويرتعد، وجهي حيثما يطلقُ الرعبُ صفّاراته؛ فتخترقُ الحُجب، ويجفلُ منها الجبابرة.
4
مُسافرٌ بين مدينتَين، وفي كلِّ واحدةٍ لي بيتٌ وشجرةٌ وكتاب. بين حربَين، وفي كلِّ واحدةٍ مولدٌ وموت. مُشرَّدٌ بين نهرين، مُقاتِلٌ بين شارعَين، ومَقتولٌ بين عينَين لا تعرفانني.
5
لم أنم على سريرٍ في غُرفةٍ، ولا على فَرشةٍ من القَصب، لا بين يَدي الهواء، ولا على كَتف الرّاحة. رمدُ العينِ بارودُ هذا المساء، واحمرارها لا أدري، أهو من دمِ المَفلوقِ بضربة الجَزّار، أم مِنْ سهرٍ بدأ منذ ليلةِ وحشةِ هابيل ولم ينتهِ بوحشتنا.
أتخطّى أُمّةً نازحة، وأبصقُ على أُخرى تختنقُ في شخيرها.
يقظٌ على قدمين، ومتَّكِئٌ على الموت.
6
سأُكملُ هذا اليوم، وقاتلي يحملُ جُثَّتي ويطوفُ بها في الأرض ويقولُ: هذا قاتلي. سأنامُ كما لو أنَّ هذا الحطامَ ليسَ منزلي، وهذهِ المدينة المُستَعرِة ليست مدينتي وهؤلاء القَتلى، لا أعرفهم، وصدفةً يمرّونَ من على جُثثٍ أهلي. سأنامُ مَرَّةً أُخرى كما لو أنَّني لم أمتْ، وأستيقظُ مُبكِّرًا لأُكمِلَ قتالي.
* شاعر وتشكيلي من العراق
إقرأ المزيد