العربي الجديد - 9/29/2024 10:19:56 AM - GMT (+3 )
تقف هذه الزاوية عند مترجمي الأدب العربي إلى اللغات العالمية المختلفة، ما هي مشاغلهم وأسئلتهم وحكاية صداقتهم مع اللغة العربية. "على الغرب أن يتعلّم قوّة التعلق بالأرض والتضحية بالنفس التي يعبّر عنها الأدب العربي"، يقول الكاتب والمترجم الإيطالي وأستاذ اللغة العربية وآدابها في "جامعة باري"، ألدو نيكوسيا، لـ"العربي الجديد".
■ متى وكيف بدأت علاقتك باللغة العربية؟
- قصتي مع اللغة العربية تطول. بدأت في الثمانينيات لما كنت طالباً في معهد الثانوية العامة في مدينة تقع جنوب شرقي صقلية. بفضل موقع جزيرتنا كانت تحدث في الصيف مفاجأة عجيبة غريبة: لمّا كنا نشغل التلفاز على القناة الأولى الوطنية "راي1" كنا نصادف مشاهد غريبة ونستمع إلى لغة غريبة. كانت القناة التونسية (أو الليبية أحياناً) التي تتطفل داخل شاشتنا الصغيرة. كان أفراد عائلتي يندهشون ويتذمرون من هذه الظاهرة في حين كنت أنا فضولياً في مشاهدة تلك القناة رغم أني لم أفهم حرفاً منها. حتى لمّا كنّا نفتح المذياع كان يحدث نفس الأمر. فكان الأثير يعجّ بالمحطات العربية على الموجات المتوسطة والقصيرة. يمكنني القول إن اللغة العربية تمظهرت علينا الصقليين. كانت عيناي "تصطدمان" بها أيضاً عندما كنت أمسك بعدة منتجات غذائية في السوبرماركت. لهذا السبب كنت ألحّ على الذهاب إلى كل المحلات. فكنت أشتري كل أنواع البسكويت التي تُكتب على علبتها أسطر محتويات ومعلومات أخرى بالعربية.
أوّل رحلة إلى بلد عربي عام 1988 فتحت لي آفاقاً واسعة
النتيجة كانت أن كل أدراج مطبخنا كانت تمتلئ بكل أنواع البسكويت فأمي ما كانت تفرح بذلك المشهد. ثم صرت من هواة جمع الطوابع البريدية والنقود من كل أنحاء لعالم، خصوصاً الطوابع العربية. كنت أحاول تفكيك رموز العربية وحدي. ملاحظة مهمة: في تلك الفترة كان العثور في المكتبات على كتب قواعد العربية أو لغات غير أوروبية مجرّد سراب. ثم أخيراً حصلت على أول كتاب قواعد عربية فتحمست لدراستها وأكملت كل التمارين في غضون بعض الأشهر. المراسلة مع أصدقاء وصديقات قلم من كل الأقطار العربية ساعدتني كثيراً على تعلّم اللغة. لما دخلت الجامعة (أورينتالي في نابولي) كنت قد تقدمت في الدراسات العربية. ففضلت مزاولة دروس لغات شرقية أخرى مثل التركية والفارسية والسواحلية. وأول رحلة إلى بلد عربي عام 1988 فتحت لي آفاقاً واسعة في محيط الثقافة العربية والمعرفة الحقيقية لما وراء الكتب.
■ ما أول كتاب ترجمتَه وكيف جرى تلقّيه؟
- قبل أن أجيب عن هذا السؤال يجب أن أميّز بين تجربة الترجمة وتجربة نشر الترجمة. فمثلاً أنا كنت أترجم الكثير من المقالات الصحافية أو القصائد أو القصص القصيرة لكن فرص النشر كانت محدودة أو شبه مستحيلة، خاصة لو تعاملت مع دور نشر صغيرة من مدن صغيرة. أول ترجمة منشورة لي كانت من الإيطالية إلى العربية عام 1999. أمر غريب فعلاً، لكتاب إيطالي يجمع نصوصاً متنوعة ورسومات لتلاميذ المدارس الصقلية. كتاب تعليمي كان يهدف إلى اكتشاف ثقافة منطقة أهل ترابني، شمال غربي صقلية. بالنسبة لي كان جهداً كبيراً لكني أعتقد أن الكتاب لم يحظ برواج كبير خارج إيطاليا للأسف.
■ ما آخر إصداراتك المترجمة من العربية وما هو إصدارك القادم؟
- آخر إصداراتي كان في الصيف الماضي: كتاب تحت عنوان عربي "بدايات" وهو يجمع الصفحات السبع الأولى لـ 22 رواية عربية كتبت بين عام 2011 وعام 2023. زميلتان لي ترجمت كل واحدة منهما بداية واحدة من الـ 22. كتبتُ مقدمة نقدية عن الأسلوب والقيمة الأدبية ووصفاً لبعض الأحداث. بطبيعة الحال، حاولت ألا أحرق كل أحداث الروايات ونهاياتها. الإصدار القادم يكون أنطولوجيا جديدة (الثالثة) تجمع مشاهد مختارة من سيناريوهات سينمائية لأفلام عربية. رغم أن النصوص السينمائية لها لغة متميزة وتخلو من جماليات أدبية وتشبه لغة المسرح، إلا أنها تقدّم حوارات مشوقة تتجلى فيها حيوية وعبقرية لغة الشارع تقريباً.
■ ما العقبات التي تواجهك كونك مترجماً من اللغة العربية؟
- هناك نوعان من العقبات. العقبة التقنية المتعلقة بخصوصية النص وأسلوبه (مثلاً مصطلحات معينة وأمثال شعبية أو حوارات بالعامية) وندرة أدوات لفهم الكلمات والعبارات الصعبة. النوع الثاني أخطر من النوع الأول وهو كما سبق وقلت، هنا في إيطاليا، باستثناء دور النشر الكبيرة، المترجم عليه أن يشتغل "ببلاش" أي مجاناً. ومما يزيد الطين بلّة أحياناً كما حدث لي منذ عدة سنوات، يجب ان يدفع حقوق المؤلف (10% من كل نسخة قبل دخول الكتاب السوق الإيطالي، لأن الناشر لم يقدر على دفعها). لكن انظر كم رواية تحمل اسم المترجم على غلافها في إيطاليا؟! حتى الآن لم أر حالة واحدة، كأن الكتاب يترجم نفسه بنفسه!
ظروف مدرّسي اللغة العربية في إيطاليا مُذلّة لكرامتهم
■ نلاحظ أن الاهتمام يقتصر على ترجمة الأدب العربي وفق نظرة واهتمام معينين، ولا يشمل الفكر وبقية الإنتاج المعرفي العربي، كيف تنظر إلى هذا الأمر وما هو السبيل لتجاوز هذه الحالة؟
- أنا تخصصي السينما العربية والاقتباس السينمائي عن الأدب العربي وصارت لي تجارب متعددة مثل ترجمة أفلام. يترتب النقص الذي أشرت إليه على نوعية الأقسام الجامعية المخصصة للثقافة العربية. الكثير من تلك الجامعات، مثل الجامعة التي أدرّس فيها، توفر للطلبة دورات محدودة: اللغة والأدب (مادة اختيارية وغير مقررة) والثقافة العربية لساعات قليلة لا تكفي لاستيعاب كنوز الفكر العربي الكلاسيكي والحديث. كما يحدث أن بعض الطلبة يجهلون أساسيات الصراعات في الشرق الأوسط أو الفنون أو علم الاجتماع وغيرها. في هذا الإطار يجب أن أشير إلى أن ظروف المدرّسين المتعاقدين للمواد المذكورة مذلة لكرامتهم. رواتب قليلة ومؤجلة كأنها "بخشيش"! لما كنت متعاقداً قبل 22 سنة كنت أتقاضى أجراً مغرياً أكثر بنسبة 400% من الأجور الحالية، وذلك النوع من الإذلال يحدث في الكثير من الجامعات.
من السبل التي أقترح لتجاوز هذه الحالة إضرابات عامة ضد التمويل الضعيف من الوزارة المختصة أو طرق أخرى لدفع تضامن الأساتذة المستقرين الذين يتناسون هذا الوضع و"يطنشون" هذه الفئة من الزملاء.
■ هل هناك تعاون بينك وبين مؤسسات في العالم العربي أو بين أفراد وما شكل التعاون الذي تتطلع إليه؟
- أنا أتعاون مع زملاء أو زميلات مستعربين أو عرب في مشاريع ثقافية أو في ندوات علمية. من المؤسسات العربية لا نتلقى أي دعم. دعني أحدثك تجربة شخصية : قبل سنتين، صديقة رئيسة لمنظمة خيرية في صقلية طلبت مني كتباً عربية لصالح المساجين العرب الموجودين في السجون الإيطالية. أولاً وجهت نداء في مجموعة "واتساب" تضم مئات من المثقفين العرب. أستاذة واحدة ردت علي قائلة إنها تريد أن تهدي عشرات الكتب لكن تكاليف الإرسال لا تسمح لها بذلك. ثم نصحت صديقتي بإرسال "إيميلات" إلى كل السفارات والقنصليات العربية في روما لطلب بعض الكتب، والنتيجة المحزنة أننا تلقينا القليل من الردود السلبية السريعة ولم يصل إلينا أي كتاب، فقررت أن أصرف مبلغًا من جيبي وطلبت من صديقٍ مالكِ دار المتوسط في ميلانو أن يحسب لي خصماً لشراء 35 رواية عربية أو إيطالية مترجمة إلى العربية.
استخفاف وسائل الإعلام الإيطالية بمصير الفلسطينيين أمر نخجل منه
■ ما هي المزايا الأساسية للأدب العربي ولماذا من المهم أن يصل إلى العالم؟
- أنا أدرس وأدرّس الأدب العربي الحديث والمعاصر في دوراتي الجامعية وأشعر بمتعة في متابعته لأنه مرآة لعدة مجتمعات وشعوب تريد التعبير عن قيمها العليا (مثلا يجب على الغرب أن يتعلّم قوة التعلق بالأرض والتضحية بالنفس) وأصواتها وتنتج فنونًا وجماليات متميزة حتى في ظروف صعبة أو مأساوية. هناك وسائط ووسائل عديدة لتجعل العالم الغربي يصغي إلى طموحات الإنسان العربي. إضافة إلى الأدب هناك المسرح والسينما والموسيقى والفنون التشكيلية الأخرى. فأظن أن المترجم يمكن أن يبني جسور التواصل بين الناس في أوروبا والعالم العربي ليس فقط عن طريق الكلمات. لحد الآن التضليل الممنهج لمعظم وسائل الإعلام الإيطالية واستخفافها بمصير الفلسطينيين أمر نخجل منه وغير مقبول. ولهذا السبب التضامن مع القضية الفلسطينية حتى في الجامعات محدود جدًا رغم جهودنا في توعية الطلبة والزملاء. في مرحلة وضع الأطروحات الجامعية أنا أنصح طلبتي باختيار نصوص أدبية غير منشورة لكاتب/ة مستعد/ة للتفاعل معنا حتى لتوطيد علاقة صداقة إضافة إلى ترجمة النصوص وتحليلها أدبيًا وتاريخيًا واجتماعيًا.
ختامًا أود أن أضيف أن الترجمات المنشورة لا تكفي (كيف نرصد ترويج رواية أو قصائد بشكل دقيق؟) بل نحتاج إلى الترجمات الشفوية اليومية التي نتبادلها في مشاويرنا الحياتية أو في أسفارنا لعلها تترك في عوالمنا الداخلية والباطنية آثارًا غير مرئية لكنها منقوشة في وجدانها.
بطاقة
Aldo Nicosia باحث وكاتب ومترجم من مواليد صقلية عام 1968، يدرّس اللغة العربية وآدابها بجامعة باري منذ 2013. من كتبه: "السينما العربية" (2007)، و"الرواية العربية في السينما" (2014)، و"بدايات - أنطولوجيا للرواية العربية 2011 -2023" (2024)، ونشر مقالات عديدة عن الأدب العربي المعاصر وعلم الترجمة واللهجات. ترجم إلى الإيطالية رواية "ليل ونهار" لسلوى بكر (2018) وجزءاً من قصص كتاب "كشري - حكايات عربية ومالطية" (2021). ترجم إلى العربية "كتاب المنطقة" - نصوص طلبة من منطقة ترابني بصقلية (1999).
إقرأ المزيد