العربي الجديد - 9/29/2024 10:19:56 AM - GMT (+3 )
من الدمار الذي خلّفه العدوان على ضاحية بيروت الجنوبية، 28 أيلول/ سبتمبر 2024 (Getty)
مدنٌ مسفوحة تحت القصف والردم وأعتى القتل، مدنٌ أحببناها إلى حدٍّ لا يمكن أن تُكْتَبَ لها مرثية، أو تنظر إليها عينٌ، وتبقى عيناً سليمة من غير أن يعطبها الموت. مع أنَّ شوارعها القديمة تموت، وبيوتها القديمة، وتاريخها القديم يفنى. إلا أن الرثاء يتمنَّع عن النطق. الأصفادُ لا تزال في الأيدي، وللكلمات أثر الحريق في الحنجرة. حتّى لكأنَّ العالم احترقَ، والقاتل أطلقَ طائر الموت في كُلِّ مكان.
بيروت تهتَّكت، دمشق مُعْتَقَلَةٌ، وفي القدس لا يزالُ طائر الموت يضربُ جناحيه ليشملَ حتّى ماضي المكان. لا أحدَ لمدن الشرق، طائر الموتِ يهمي، وحشيّاً متمرِّساً، ويريدُ أن يقتصَّ من كُلِّ ما أنبتَ في مدن الشرق، حتّى لو كان حزناً وئيداً يتعكز في الأرياف، حتّى لو كان ندماً. حتّى لو كان عمراً لمدنٍ لا يوجد مَن يربّتُها بكلمة واحدة تنتمي إلى الغد.
حتّى الحزن، يخرّبهُ إخوةٌ علينا. لا شيء في مدن الشرق، سِوى صفير الموت والصمت، صفيرٌ يخرج من عمقٍ أصمّ، من عمق خالٍ؛ حتّى لكأنَّ ذلك الخلو الذي يقبع وراءَ كُلِّ شيء، يقول لنا: اسكنوا في ذلك الخلوّ، والبثوا في رداءٍ معتم... تعرفون الآن أنّكم معزولون، تعرفون أنَّ طائر الموت انتُدِبَ من أُمم كثيرة، وأنَّكم منتزَعون أخيراً من أرضكم. تعرفون أنَّكم صرتم غرباء، ومدن الشرق صارت سيلَ يُتمٍ، وأنَّ طائر الموت الذي يهمي في الخارج، جاءَ كي يعيدَ هذه الأرض خلاءً حتّى من القرابين، حتّى من الرجاء.
لا تشعلوا ناراً، لا تهتفوا، لا تناجوا أحداً. مدنكم مقتولةٌ. وأنتم مطوَّقون بالحريّة، ومكتوبون بالنسيان.
* روائي من سورية
إقرأ المزيد