العربي الجديد - 9/29/2024 10:19:55 AM - GMT (+3 )
معرض "مناظر طبيعية برّية" للفنّانة التشكيلية اللبنانية غادة الزغبي في "غاليري جانين ربيز" بـ بيروت، ذو موضوع واحد هو الحجر. يدرج الموضوع الواحد في هذه الأيام، بحيث يغدو المعرض كلُّه أقرب إلى أن يكون واحداً في أغراضه وعناوينه. هو كذلك يقول الشيء نفسه، وإن بقدْر من التفاوت والاختلاف. يكون المعرض في هذه الحال مؤلّفاً واحداً، كأنّما هو كذلك الرواية ذاتها.
ما يجمع بين الأعمال المعروضة هنا هو هذا العنوان الواحد. نحن في ذلك أمام خلطة بين الرسم وموضوعه، أي بين اللوحة وكلمتها ومقالتها إذا صحّ التعبير. هذا يبني جسوراً بين الرسم والكلمة، بين المعرض والرواية، أي بين التشكيل والأدب. معرض غادة الزغبي هو تماماً تلك الخلطة، إذ لا نفرّق فيه بين لوحة ولوحة إلّا بقربها من هذا العنوان الشامل: الحجر.
لا نفرّق بين لوحة وأُخرى إلّا بقربها من هذا العنوان الشامل: الحجر
إذا نحن تأمّلنا في لوحات المعرض التي تنوف على العشرين، لا بدّ أن يأخذنا هذا الوصف للحجارة بأشكال شتّى. سنلاحظ أنّ رواية المعرض تبدأ من هنا. سنرى في لوحةٍ حجارة مرصوفة دون أن تتّخذ شكلاً محدّداً، أنّها صفحة واحدة متراكمة من أحجار لا تتفاوت فقط بالحجم، بل تتراكب في تشكيل واحد، هو منظومة ذات حركة داخلية، فالحجارة ليست فقط متراكمة، إنّما هي في تراكمها تتحرّك من الداخل. سنجد إلى جانبها لوحات يؤدّي تراكمها إلى أنساق كاملة، أنساق تُجهّز شكلاً مستقيماً، يجعل اللوحة الحجرية هذه تبدو، كأنّها في تأسيسها لشكل متوازٍ تكاد توحي بمنحوتة مضمرة، بل ومنحوتة منصوبة.
سنجد أنّ الركام هنا موزون ومتناسق، بحيث نشعر أنّنا لسنا أمام ركام عشوائي، أنّ لهذا الركام شكلاً وضوءاً، فالحجارة المركومة تملك ما يجعلها نسقاً، ما يمنحها، داخل هذا التوازن، ليس حركةً فحسب، بل ضوء أيضاً. الحجارة هكذا لا تؤلّف فقط نحتاً، بل هي إذا ذهبنا في الخيال، جنب اللوحة الأُخرى متفاوتتين في قليل أو كثير، تكاد أن تكون كلمةً تكتمل أو تضيف أو تنضاف إلى اللوحة المجاورة، التي هي أيضاً، على نحو ما، كمالة لها.
هكذا نجد أنّ بين اللوحات تسلسلاً، بل هي في توزّعها على الجدران تتكامل كلمةً بعد كلمة. إنّها هنا، إزاء نفسها وإزاء اللوحات الأُخرى، فالجميع واحدة بعد واحدة، لا تزال تؤلّف تلك الرواية المتّصلة، فصلاً بعد فصل، عنواناً بعد آخر.
هكذا لا يفاجئنا أنّ الحائط الجداري يتحوّل، في لوحات أُخرى، من شكل مرصوف إلى شكل منصوب متعامد. لا يفاجئنا أنّ النصب ليس وحده موجوداً في فضاء. هكذا نجده في حضرة مكان لا يحيط به فحسب، بل يضيف إليه ما يجعل من اللوحة مشهداً، بل يجعل منها طبيعة صامتة، إن لم نقل ظلّاً نحتياً. هذا النصب لن يبقى سيّد المكان وموضوعه، إنّه في لوحات أُخرى يتحوّل، أكثر فأكثر، إلى شيء في اللوحة أو تفصيل فيها. إنّه يرقى بنصبيته لكنه ينزاح إلى ركن في اللوحة. إنّه هكذا حجم محاط بفضاء عارم، وسيبقى ينزوي حتى لا يكاد يظهر لحساب فضاء يزداد اتساعاً وانشراحاً.
نفهم من هنا أنّ رواية المعرض لا تزال تتسلسل وتتنوّع، إلى أن نصل إلى الصخور التي ينبثق من فوقها موج متعالٍ. لقد وصلت الرواية إلى البحر، هناك قصّة أُخرى للحجر، ثم يتفرّغ الفضاء ويتّسع بحيث نجد أنّه صار هو اللوحة، ولم يبقَ من الحجر سوى فتات وزوايا. لن نعجب هكذا إذا وجدناه يختفي أو يغدو شكلاً بيتياً، أو طاولة فحسب.
هكذا يتحوّل النصب المنحوت إلى فراغ، تنتهي الرواية بهذه الدرجة من الخفاء. من الحائط الجداري إلى النصب والمنحوتة، قبل أن يتّسع الفراغ وتتّسع معه اللوحة التي تغدو، شيئاً فشيئاً فضاءً، يغلب فيها الفراغ أكثر فأكثر حتى يبدو سائداً. مع ذلك يفقد الحجر كيانه ويتراجع قليلاً، إلى أن يكاد يختفي، ولا يبقى سوى أثره وصداه. من المنحوتة والنصب إلى الفراغ، هكذا تتسلسل الرواية كأنّما نبدأ من الشكل الكامل إلى درجة من الزوال، من الوجود الشاخص الكلّي إلى العدم.
* شاعر وروائي من لبنان
إقرأ المزيد