معرض الكتاب بالرياض: لمحاتٌ من جدارية
العربي الجديد -

مع أنّ الاحتفاء بالمنتج الثقافي للشعوب بإقامة معارض سنوية للكتب فكرة معتقة تمتدّ لخمسة قرون من تاريخ منشود الكتاب وشهوة المعرفة، حيث يعود تاريخ أوّل معرض للكتب إلى عام 1439، حين شكّل اكتشاف المبدع الألماني يوهانس غوتنبرغ نعمة الطباعة منطلقاً تراكمياً لذلك الزخم الأدبي والفنّي والسياسي والاجتماعي والإعلامي الذي أصبح مصاحباً لمعارض الكتب في التاريخ المعاصر، فإنّنا نشهد اليوم، وفي ذروة العصر الإلكتروني، حالةً لافتة من توسُّع علاقة المجتمعات بالكتاب، ليُصبح خبزاً وملحاً مشتركاً متاحاً للشعوب، وليس امتيازاً لنخبة بعينها.

إلّا أنّ موجة مَعارض الكتاب لم تكن خياراً متاحاً للمثقّفين العرب إلّا في الربع الأخير من القرن العشرين تقريباً، فكان على القارئ العربي في أجواء متراوحة من اختناقات حرّية الكتب أن يبحث عن خلاصه الشخصي بالكتب في الخفاء وببأس فردي ليس إلّا، وقد مرّت مراحل حالكة لم يكن يُخال فيها ولا في الأحلام أن تصير صناعة الكتاب وإنتاجها بمختلف مشاربها وتداوُلها عملاً "حلالاً".

وبالمثل، مع فوارق ذاتية وموضوعية، لم تكن فكرة إقامة معارض الكتب في الغرب عموماً قد انتشرت واستقرّت حتى عام 1949، عند انطلاق معرض فرانكفورت للكتاب كتظاهرة ثقافية شكّلت نقلة نوعية في تاريخ معارض الكتب الطويل، وكأنّه كان على عموم القرّاء في العالم من عشّاق الكتب أن يستشفوا من جروح الحروب ومن سطوة قسوة المجتمعات الصناعية وما بعد الصناعية بابتكارات خلّاقة لا تصطدم مع سلطة المال والسلطات الأُخرى، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

كنتُ محظوظة بأن عشت نشوة معرض الكتاب في رغوتها الأُولى

ومن هنا، وتحت وطأة الحاجة إلى متنفّسات، صارت معارض الكتب واقعاً، وتحوّلت إلى تقليد عمراني بما هو نشاط فكري ووجداني للإنسان، وجزء من التكوين الثقافي للمدن الحديثة، في محاولة لأنسنة الحياة المعاصرة بالكتب، وفي محاولة لردّ الاعتبار إليها من انتهاكها اليومي بالاستهلاك. وإن جاء ذلك في إطار النظام الرأسمالي بمقايضة معارض الكتب بمقابل العوائد المالية الضريبية والتجارية العالية.

طبعاً، هناك أسئلة فلسفية وسوسيولوجية معقّدة في ظاهرة معارض الكتب ومالها وما عليها عبر العالم، وتوظيفاتها المتعدّدة المغرضة والبريئة، إلّا أنّني سأكتفي بالمقدّمة أعلاه لأختطف باختزال لمحة من جدارية معرض الكتاب بالرياض.

***

لمعرض الكتاب السنوي في الرياض، كمعظم معارض الكتب في العالم، قصّته وقصّته الأُخرى، وككلّ القصص التي لا تخلو من تعدّدها؛ فهناك قصّة المتن وقصّة الهامش، وهناك قصّة المسرح وقصّة الكواليس، والقصّة المعلنة والهامسة والأخرى الصامتة، ولا يخلو الأمر أحياناً من القصّة المتخيَّلة أيضاً.

ومن وجهة نظري، بصفتي دارسة لعلم الاجتماع المعرفي والسياسي، ولست فقط كاتبة عاشت مدّ وجزر ومدّ الأجاج والعذب في معرض الكتاب عبر عدّة عقود، فإنّ بالإمكان قراءة التاريخ الاجتماعي والسياسي، وليس الثقافي وحسب، في السرديات المتعدّدة والمتنوّعة لقصّة معرض الكتاب بالرياض لا عدمنا ماءه.

وإذا كنتُ لحظي قد وقفتُ على عدد من معارض الكتب بالعالم العربي والعالم الغربي، ومن أبهاها معرض فرانكفورت للكتاب 2004، حيث كان العالم العربي ضيف المعرض بجدارة وبتمثيل عربي وسعودي واسع، فكان المعرض بحضور كوكبة من الأسماء المضيئة في سماء الثقافة العربية من مريد البرغوثي إلى محمود درويش ومن أدونيس إلى لينا الطيبي ومن عبدالله الصيخان وأشجان هندي إلى فاطمة قنديل وحياة الريس وميسون صقر وعباس بيضون ومن رضوى عاشور إلى عبده خال ورجاء عالم وأحلام مستغانمي، عدا عن الحضور الموسيقي الباذخ لنصير شما، ولعدد من الفكرين العرب ومنهم حليم بركات، فإنّني كنت أكثر من محظوظة بأنّني عاصرت عن قرب لصيق وفعّال ومتفاعل معظم معارض الكتب التي أقيمت على أرض مسقط رأسي وقلبي مدينة الرياض. وقد كنتُ شاهدا عليها في عدّة مراحل وفي خضمّ من تموّج التحوّلات.

عشت نشوة معرض الكتاب في رغوتها الأُولى حين كان المعرض يُقام على أرض حرم جامعة الملك سعود وكان ذلك مطلع الثمانينيات. ورغم أنّ المعرض كان مخفوراً وقتها بحرّاس التقاليد الاجتماعية التي لم تكن قد تآلفت بعدُ مع وجود البشر/ نساءً ورجالاً في فضاء عام واحد باستثناء بيوت الله الحرام بمكّة والمدينة، وإن كان فضاءً معرفياً لمعرض كتب وفي حرم جامعي، إلّا أنّه لم يكن حرساً شرساً أو عنيفاً، ولم يستطع وربّما لم يُرد أن يتدخّل بما يفسد فضول مرتادي المعرض الأدبي والعلمي. فكانت أيام معرض الكتاب في سنواته الأُولى تمرّ على أرض الرياض بشيء من الحذر، ولكن بتعايش سلمي غير صدامي، لا يُخلّ بتوازن بين مرقاب الحرّاس وبين مسرى الفرح في أروقة الكتب، بما لا يقطع النهر البشري المتدفّق لارتياد المعرض، ولكنّه لا يعفيها من التوجّس والقلق.

عشتُ تجربة معرض الكتاب في سنوات ثقافية/ اجتماعية جافّة موحشة عجاف، فكان معرض الكتاب شمعة في ظلام، رغم أنّ موسمه المنتظر كان يأتي محفوفاً بالمخاطر والمكاره، بما قد يجعل الملاحقات والتضييق والتجييش "غير الرسمي" تحوّل الشمعة إلى حريق طارد للمرمى النبيل من إقامة معارض الكتب وتحيل مناخه العام إلى جوّ خانق لروّاده وللكتاب ولعمليات توقيع الكتب وللناشرين، بل ولإدارات المعرض المتعاقبة عاماً بعد عام لما يقارب العقد. ولا بدّ في السياق أن أشير إلى شجاعة الإصرار على إقامة المعرض رغم ما كان يحيط بإقامته من استعراضات القوّة من قبل كارهي ضوء المعرفة والمدافعين عن الظلام، وما يثيرونه من سجالات خشنة تُسمّم مناخ المعرض ويضيع فيها عبير الكتب الأخّاذ.

وبالقفز على المراحل، فإذا اعتبرنا مطلع الثمانينيات المشار إليها مرحلة أُولى، ومنتصفها إلى بداية الألفية الثالثة المذكورة أعلاه مرحلة ثانية، فإنّ معرض الرياض للكتاب اليوم يعيش مرحلة جديدة تبدو واحدة من لحظات الأعياد المعرفية النادرة في علاقة الكتاب بالحرّية التي هي العنصر الخلّاق من عناصر جوهر المعرفة وغاياتها النهائية، أو بالأحرى اللانهائية. فمعرض الكتاب هذا العام إذ يعود إلى نقطة انطلاقته الأُولى على أرض حرم جامعة الملك سعود، فإنه يطوّر ما شرع فيه من عدّة أعوام قريبة بمحاولة نرجو أن يحفّها النجاح والاستمرار والتعميق لتوطين معايير معارض الكتب العالمية في إدارة المعرض بما هي واجهة حضارية ووجهة للحالمين بقدرة الكتب على تحرير الأرواح من محدودية الجسد وتحرير الأوطان من محدودية الواقع بأفق المستقبل.

أوّل أمس الخميس، انطلقت على أرض الرياض ورشة عمل في الفكر والشعر والعلم والأدب وفي التشكيل والفن السينمائي والموسيقي لتشكيل جدارية عالمية عربية سعودية اسمها معرض الكتاب بالرياض. أمّا حلول دولة قطر ضيفة شرف على المعرض ممثّلة بمثقّفيها وبنتاجها من الكتب فإنّه يشكّل لوناً يُضاف إلى سحر الجدارية.

علَّ ماء الثقافة يروى عطشى الكتب ويساهم، ولو بقطرة حبر، في إذكاء شعلة الضمير نحو مطلب الخبز والحب والرشد والسلام في عالمنا العربي وفي العالم.
 

* شاعرة وكاتبة وأكاديمية من السعودية



إقرأ المزيد