العربي الجديد - 9/27/2024 11:42:45 PM - GMT (+3 )
من آثار العدوان الصهيوني على ضاحية بيروت الجنوبية، 27 أيلول/ سبتمبر 2024 (Getty)
تجاوزت حصيلة الضحايا لما أسمته "إسرائيل" بـ"الهجمات الانتقائية" خمسمئة قتيلٍ بحلول ظهر يوم الثلاثاء الماضي. وهي تفجيرات حصدت أرواح مئات المدنيّين العُزّل في المناطق المُكتظّة بالسكان مثل بيروت. كذلك كانت "تفجيرات انتقائية" تلك التي وقعت يوم الإثنين، وقبلها في السابع والعشرين من تموز/ يوليو الفائت.
وعلى مدى الأسابيع الماضية، كان لبنان هدفاً لما أطلقت عليه "إسرائيل" أيضاً "هجمات وقائية"، في تفسيرٍ "فريد من نوعه" للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، ومفاده: "أفترض أنهم سيهاجموننا، لذا نستبق الأمر باستخدام الحق المشروع في الدفاع عن النفس".
يؤكّد الصحافي فيكتور مورينو، في مقالٍ كتبه في مطلع العام الجاري، أنَّ عبارات التنميق لا تشوّه الشيء الذي تسميه فحسب -أي الحرب- بل تُفسد أيضاً من يستخدمها، لأنّ وظيفتها الأساسيّة، إضافة إلى تجنّب الحساسيّات، هو التلاعب، والتجميل، بهدف التزوير والتستّر على الحقيقة، كما هو الحال هنا: الإبادة الجماعية في غزّة، والتي يُضاف إليها الهجمات على دولٍ ذات سيادة، كما يحدث في لبنان، أو كما شهدنا سابقاً في سورية وإيران.
ووفقاً لهذه الرواية، فإن الآلاف من ضحايا هذه التفجيرات والهجمات الإرهابية، حيث استُبدلت القنابل التقليديّة بأجهزة متفجرة متنّقلة، هم مجرد "أضرار جانبية". وبطبيعة الحالة، إلى جانب أولئك الضحايا، ثمّة آلاف الجرحى الذين إن عاشوا، فسيعانون من إعاقات مدى الحياة.
تتكرر اليوم أنماط مذبحة غزّة في لبنان، وأولها تحذير السكان المدنيّين بإخلاء منازلهم ومغادرة أماكن إقامتهم أو ما يسمونه بـ"الهجرة الطوعية". إلى هؤلاء الهاربين من القصف المكثّف على جنوب لبنان، يُضاف ما يقرب مئة ألف نازحٍ، منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وهو ما تسبّب به تكتيك "الأرض المحروقة" الذي تتبعه "إسرائيل" في جنوب الليطاني.
و"الأرض المحروقة" تكتيك قديم يُعدُّ من أقدم التكتيكات الحربية التي عرفها التاريخ، وتعود أصوله إلى حرق الحقول والمحاصيل الزراعية في خضم النزاعات والحروب. وقد وثّق ذلك هيرودوتس في عهد داريوس الأول، حيث تم استخدام هذا التكتيك على مرّ العصور. وفي إسبانيا اعتمدها الملوك الكاثوليك لتهجير المسلمين من الأندلس، تاركين خلفهم مناطق مهجورة وصحارى لا تزال حتى يومنا هذا.
حُظرت هذه الممارسة في اتفاقيات جنيف، حيث تمنع المادة 54 من "استهداف أو تدمير أو تعطيل الموارد الضرورية لبقاء السكان المدنيّين". مع ذلك، تستمر "إسرائيل" في انتهاج هذا التكتيك دون رادع، كما هو الحال في حصار غزّة وفي جنوب لبنان، حيث قصفت حقوله بالفوسفور الأبيض؛ وهي الطريقة الجديدة لحرق الأراضي وتدميرها وجرف الأراضي، وتلويث طبقات المياه الجوفية.
وبهذه الممارسات، تخترق "إسرائيل" بشكل مزدوج القانون الدولي: أولاً تقوم بهجمات محظورة بموجب القوانين الدولية، وثانياً تستخدم أسلحة كيميائية محظورة دولياً في هجماتها.
وفيما يهرعُ السكان تحت وابل الغارات الإسرائيلية إلى أماكن يعتقدون أنّها أكثر أماناً، تجد "إسرائيل" ذريعة جديدة لتوسيع نطاق هجماتها، مدّعية وجود أهداف عسكرية بين النازحين المدنيّين. المفارقة المُحزِنة هي تلك التي يعيشها أولئك الذين اضطروا للهرب من الجنوب المحاصر بحثًا عن ملاذٍ آمن في منازل أقاربهم بالأحياء الشيعية في بيروت، ليتعرّضوا لمذبحة في العاصمة اللبنانية بعد ساعات.
والآن تشهد العاصمة موجة جديدة من النزوح نحو الشمال، مما يجعل كل بقعة في لبنان هدفًا محتملاً للغزاة. وبالاستناد إلى التجارب المأساوية التي شهدناها على مدار العام الماضي، نعلم أن "إسرائيل" لا تبالي في قصف المدارس والمستشفيات، وقد يلجؤون إلى استخدام الأسلحة الكيميائية المحظورة مرّة أخرى.
منذ زمن بعيد، شرع الإسرائيليون في استخدام عبارات التنميق، بدءاً من تحريف حروف العلّة في بعض الكلمات التوراتية، وصولًا إلى الترويج لمصطلح "المستوطنات القانونية" على أراضٍ مسلوبة. وربما ينتهي بهم المطاف بابتكار تعبير أشبه بـ "الحل النهائي" لتمويه جرائم الإبادة الجماعية التي يقترفونها في غزّة، إن لم يكن هذا قد حدث بالفعل.
وعودة إلى مقال مورينو، إن استخدام هذه اللغة التخفيفية والعبارات المنمقة لا يقتصر على تشويه الحقيقة ومن يصوغها فحسب، بل يشوّه أيضاً الصحافيين ووسائل الإعلام التي تواصل تكرارها بإلحاح لا ينقطع.
* شاعرة وصحافية من إسبانيا
إقرأ المزيد