حدائق العاشق (15): زُجاجة الروح
العربي الجديد -

ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد، الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.



"والآن أيتها المرأةُ الشابّة، يا صانعة الخمر،
 ما دمتُ رأيت وجهكِ لا تدعيني
 أرى وجهَ الموت الذي أخشاه".

(من ملحمة جلجامش) 


أتذكّرُ صياحَ النوارس الذي كان بالأمس، النوارس البيضاء ذاتها تُحلّق وتنقضُّ على الماء كما كانت دائماً، وبعضُها يتناثر بُقعاً بيضاء نائية طافية فوق نهار ارتفعت شمسُه قليلاً.

ضُحى ذلك اليوم استيقظ صاحبُ "بار بابلون" على مقعده الطويل المُجاور للباب بين الطاولات والمقاعد الخالية، واستيقظت الفنزويليةُ الغاضبة التي خفّفَ غضبها أنني فينيقي لا زال يتجوّل بين الجُزر منذ مئات السنين، واستيقظتُ على شاطئ لارنكا على صياح النوارس.

تحدَّاني صاحب البار الطويل أن أواصل الشُّربَ حتى الصباح، لأُثبتَ له أن عُمق معرفتي بأصل الأسماء التوراتية المُحرَّفة يُوازي قدرتي على اليقظة، فما دُمنا اجتمعنا في باب الإله، فهي فُرصة نادرة لنتحقّق من قُربنا أو بُعدنا عنه، وطلبَ من ساقية البار الفنزويلية أن تُراقبني لتؤكّد لي فيما بعد عدد الساعات التي نمتُ فيها... ولاحظتُ مؤكّداً على نظرتي:

- "الألسنةُ تتوحد في باب الإله عادة ولا تتبلبل إلّا حين ينقطع الشراب".  

لم يبقَ من الرُّوّاد إلّا صخب البحر البعيد، ومشهد صفصافة تلوح من النافذة، وخلفها أضواء لافتات خرساء، وأمامي شفَتان بلون الخمر. الخمر الذي يكون أرجوانياً أحياناً، وبُنّياً داكناً في أحيان أُخرى. 

أذبل فجأة حين أتذكّر الملائكة التي تحمل أصدقائي إلى أماكن مجهولة

قالت الفنزويليةُ التي لم تشهدْ خطواتنا في الغابة، ولا أرجوان البوكنفيليا الطافحة فوق أوراقها الخضراء المعتمة، ولا استمعتْ إلى اصطفاق المياه على جوانب مرسى القوارب الفينيسي: 

- "ما الذي جاء بك إلى هذه الجزيرة؟".

قلت: "الأصدقاء... الأصدقاء فقط".

ناجي يرقد عميقاً في النسيان، أشجار النسيان، مقاهي النسيان، صحف النسيان، كلّ شيء يتحوّل إلى بحر من النسيان.

- "ما الذي تريد أن تنساه؟".

- "بل قولي... ما الذي تريد أن تعرف؟".

تزمّ شفتيها كمَن رأتْ كلَّ شيءٍ، وتُتَمتم هازئة: "تُريد أن تعرف؟ ما الذي يستحقّ المعرفة في هذا العالم؟ نصيبُكَ أو نصيبي أن نحسّ بالأشياء كما تصطدم بنا أو نصطدم بها، نصيبُنا هذه المتعة التي لا نملك غيرها أو هي لا تملك غيرنا". 

- "مُفزِعٌ أن يكون العالم زهرةً بهذا الاتّساع والنسيان وهذه اللامبالاة، تلتهم كل شيء". 

- "لا أفهم الشعر ولا أحبّه، أعرف فقط أن أعيش وليكُن ما بعد ذلك الجحيم... بدأت عيناكَ بالذبول... دع كأسكَ جانباً". 

- "لا... هذه فكرة... مجرّد فكرة ذابلة عبرت... أحياناً أتذكّر الابتهاجَ فأتحوّل إلى حقلِ نوّارٍ مُشمِس تحت رذاذ مطر خفيف، وأحياناً أتذكّر الكآبة فأتحوّل إلى هوّةٍ قاسية، أذبل فجأة حين أتذكّر الملائكة التي تحمل أصدقائي إلى أماكن مجهولة".

استيقظَت امرأةٌ رقدتْ في خزانة الجوز عدداً من السنين، فوجدتْ إلى جانبها أشياءها الأثيرة: نظّاراتها الطبّية، ودفتر المذكرات، وأقلامها، وفساتينها، وأحذيتها الحريرية. لم يكُن يُسمَع صوتٌ سوى صوتِ تنفّسها الهادئ، وفي الخارج وشيشٌ خافت لنُدفِ ثلج لا زالت تتساقط... وتتساقط. سطوحُ البيوت بيضاء، ورؤوس أشجار الصنوبر تبيضُّ في الظلام، والأرصفةُ وأعشابُ الحدائق، بياضٌ في كلّ مكان، إلّا أنّ جوَّ الخزانة كان دافئاً مثل أغنيةٍ عالقة منذ الأمس في الهواء، نغماتها مألوفة إلى درجة ضجَّ معها قلبُ المرأة بالدماء الساخنة.

تلجأ إليها الثعالبُ أو تستريح قافلةٌ مسافرة، فتعلّق عليها تمائمها

حين فتحتْ باب الخزانة، لفحتها الظُّلمةُ، وتدفّقت فجأة فأشعرتها بالقشعريرة، بالتوحّد، وامتلأ هواءُ الخِزانة بالظُّلمة. وأدركت المرأةُ حين خرجتْ أنها تقف عاريةً تحت نُدف الثلج المُتساقط. لا شيء حولها سوى البياض إلى أبعد مدى. وحين رفعتْ عينيها إلى السماء التصقتْ بشفتيها ندفة ثلج وذابت، وأُخرى وذابت. لم ترَ غير فضاءٍ بلا نجوم ترفُّ فيه ندفُ الثلج مثل طيورٍ صغيرة بيضاء.  

غالب يلعن الكتابة في أواخر أيامه، ويلعن روائياً بليداً يودُّ أن يكفَّ عن التدخين لتظلّ له بقية من عُمر يكتب فيها المزيد من الروايات. ويتساءل وهو على المقعد نصف غافٍ ونصف نائم: 

- "كم يحتاج الإنسان من البلادة لينفق أثمن ما يملك على الكتابة... والكتابة فقط؟".  

المروجُ... المروجُ فقط ما يتراءى أمام عينيه، خبزُ الصاج ودخانُ القرى المرتفع، ودخان الصيّادين والرُّعاة في تجاويف الأودية. النعاسُ وحده جديرٌ بهذه المُتعة. نعاسٌ خفيف يزداد ثقلاً في أمسيات دمشق المتوحّدة، تطيرُ فيه طيورٌ تُسبّب القلق، طيورٌ صامتة، خرساء تُحلّق في فضاء ساكن. لا رداءَ سوى الريش أحياناً، ولا طعامَ سوى التراب.

تطلّعَ صاحبُ البار حوله إلى المقاعد الخالية، وإلى أشعةِ شمس الضحى التي ارتفعت، وتطلّعتْ الفنزويلية إلى فراشها أو سفينتها كما كانت تقول، السفينة الوحيدة التي رُبّانها الريحُ والرذاذ، وتطلّعتُ إلى حافة البحر الخالي إلّا من السابحين والمظلّات. الساحلُ يظلّله خطٌّ طويل من أشجار النخيل الهندي الباسق، ووراءه أُقيمت أكشاكُ الساندويشات وأدوات البحر والمجلّات والصحف وأنصاف العُراة والنظّارات السوداء. 

حتى في هذا الصحو الهادئ، حين تمرُّ نسماتٌ بين آونة وأُخرى لا أستطيع مُغالبة النعاس، والتوقّف عن القراءة، والتوقّف عن التحديق في أجساد النساء العاريات المتناثرة، والغوص عميقاً في أنداء بعيدة.

سافاثا ترقد بعيداً في الصحراء. عقودُها العبّاسية. طرُقاتها المُترَبة. تتدفّق المياهُ وترتفع حتى أعلى نقطة في مبنى معبدها المهجور. تحت المياه دائماً تحلّقُ طيورٌ بيضاء. تبترد النسوة وتتماوج الظلال.

قالت الفنزويلية متنهِّدة: "أيها الآرامي التائه... أيها الفينيقي... أيها الفلسطيني... أيها اللا... شيء". 

وتوقّفتْ حركةُ الشفتين، وازدادتْ ضراوة عينيها المتوحّشتَين، وترك صوتُها المبحوح من أثر الخمر والتدخين والنواح الجنائزي ربما، خطّاً أرجوانياً، ثلماً في الهواء المشدود بيننا.   

- "أتعرف... استأثر الإله وحده بالبقاء ومنحنا الفناء... ولكن ليس بلا متعة... سترجع من حيث أتيتَ بلا كتاب ولا آية، آيتُكَ النبيذ والمزيد من النبيذ وأحضان الزوجة ونشوة الأطفال".

حافةُ البحر أو حافة العالَم أو حافة الرغبة، أسمعُ الصوت المبحوح: "سأجعلكَ كاهني الوحيد... متاهتي الوحيدة".

في ليلةِ القصائدِ اليونانية المكتوبةِ كيفما اتّفق على هوامش كتابٍ، في منتصفِ الليل الأثينيّ الذي ظلّله الصفصافُ، وتناثر فيه مقطعُ أغنية لعابرين في الظلام، أحدث ظهورُ المرأة المجهولة واختفاؤها رجفةً في عُمق الليل ظلّت تمتدّ وتتّسع. وما إن ارتفعتْ شمسُ النهار حتى حدثتْ تماثيلُ المُتحف والقروياتِ الحاملات الأفاريز، وفجواتُ الطريق المتعرّج الصاعد إلى مغارة الكاهنة، حدثتْ صخورُ جبل برناسوس الصاعد حتى الغيوم، وأبحرتْ سفينةٌ تكتظّ بالسائحين إلى الجُزر اليونانية، بينما كان الحمامُ الأبيض والرماديّ يتناثر ويحطّ على الأكتاف والأيدي وبلاط ساحة السنتغما بين انتشاء الأطفال وصراخهم، وهدير السيارات العابرة، وبهجة بائع الذرة العجوز القابع في الظلّ بقبّعته الرمادية ومعطفه البالي.

الروحُ لا تُرى، إلّا أنّ الخُدوشَ على سطح الزجاجة الأرجوانية ترسم تعرُّجاتها

"المرئياتُ لا تشفُّ إلّا في عمق الليل، أو هي لا تكون كذلك إلّا لأنها تُسافر في الليل دائماً، وما إن تقترب حافةُ النهار حتى تلجأ إلى مدنها الخفيّة". 

لا بدّ أن المرأة المجهولة قالت هذا، و نقشته على صخرة بين هذه الصخورالمُتناثرة. صخرة بيضاء لامعة امّحت أو تحوّلتْ إلى مسحوق أبيض، أو أخذها فلّاحٌ وجعلها في أساس جدار مُهمَل، ونُسِب النقشُ إلى إحدى كاهنات دلفي، كاهنة انتشلوا جثّتها من النبع المقدّس.

- "أغمِضْ عينيكَ... وستجد نفسكَ في سافاثا قبل أن ينتصف النهار أو قبل أن يرتدّ إليك طرفك..."، وافترّت شفتا الفنزويلية القاتمة عن بسمة ساخرة. 

"وإليكَ هذه الزجاجة وهذه القواقع البحرية... حدّق جيداً، هنا صفصافةٌ أيضاً على باب... ماذا؟ باب الإله كما سمّيته، وهنا امرأة ستعود إلى سفينتها، سفينة الأشباح، وتنشد بهدوء أو تغنّي رحيلكَ مُهدهِدةً مثل... مثل بحرٍ عميق يُشبه خمرة داكنة".

ونهضتْ متموّجة وهي تردّ أطراف فُستانها على فخذَيها، ودارت حول نفسها دورة كاملة.

الشمسُ في ضحاها، حفيفُ أجنحة النوارس يملأ الشاطئ، حافةُ البحر مُوحشة.

- "أغمِضْ عينيك".

هل قالتْ ذلك حقّاً؟ أم أنني تخيّلتهُ بين النعاس واليقظة؟ 

انتشروا على المنحدراتِ المُطلَّة على الشواطئ مثل بحّارةٍ أغرقُوا سفينتهم، وبدأوا بقطع الأشجار وإقامة المخيّماتِ على شاطئ منعزلٍ ربّما ينحدر إليه أطفالٌ في مقبل الأيام، أطفالٌ متوحّشون قادمون من مدنٍ خَربة، من ثلّاجاتٍ وناطحات سحاب ومنتجعاتٍ ويُخوت جانحة تحوّلتْ إلى هياكل تعبث في مياهها أسماكٌ صغيرة مُبتهِجة، وتطفو طحالبُ وأشناتٌ وصناديق عطور ومجوهرات خالية، وحمولةُ سفائن أبحرت بلا مسافرين ولم ترجع أبداً.

بين الفينة والفينة كان يرتفع غِناءٌ في هذه الخيمة أو تلك، أو تصدر صرخاتٌ مَرحة بين أشجار الصنوبر، أو أصواتُ أقدام حافية تتراكض ضاحكة بين الظلال، أو تتناثر نغماتُ ماندولين متوحّد.

أُغمضُ عيني لأقترب من الحُلم أكثر، وأرى نفسي في نقشٍ مطموس على صخرة عند أطراف الصحراء غارقة في الرمل والريح، أحياناً تلجأ إليها الثعالبُ أو تستريح قافلةٌ مسافرة فتعلق عليها تمائمها وتُوقِد نيرانها في العراء.

أُصيبَ جسدُ الفنزويلية باليأس، فاختارتْ هذه الحانة المنزوية في شارع الصفصاف لاصطياد العابرين، وتعليقِ أرواحهم في زُجاجات أرجوانية لامعة تصطف وراءها على الجدار. كانوا يأتون بأرواحٍ كاملة تصرخ في أرجائها النوارسُ البحرية، ثم يمضون أشباحاً بلا ذاكرة، تحمل القواقعَ البَحرِيّة ومشهد النافذة والسفينة التي ربّانها الريح والرّذاذ.

حين عدتُ ونظرتُ إلى روحي المُعلّقةِ هناك على جدارِ باب الإله الخالي، كان الضحى في آخره، والنسماتُ العابرة تعبث بستارةٍ من خيوط ِ خرزٍ مُدلّاة على الباب، فتصدر وسوسة وهي تحتكّ ببعضها.

الروحُ لا تُرى، إلّا أنّ الخُدوشَ على سطح الزجاجة الأرجوانية ترسم تعرُّجاتها، وتمنحها شكلَها اللامرئي، وتُمسك بها في هذا الحيّز الضئيل، حيّز يُذكّر بكلّ شيء: بالبحار العميقة والأودية النائية، والسماوات والكنائس المهجورة والمساجد المُندثرة، والمدن، المدن التي يهبط الثلجُ خفيفاً على تماثيلها الحجرية، وساحاتها الخالية وطُرقاتها المتشقّقة. هنالك في الصدوع تنمو الأعشابُ وتتكاثر أزهار الداندليون الصفراء اللامعة تحت شمس الظهيرة.
 



إقرأ المزيد