تونسيون يهربون من الغلاء نحو المدن... هجرة عكسية
العربي الجديد -

غلاء المعيشة أدى إلى تآكل الطبقة الوسطى (فتحي بلعيد/فرانس برس)

عام 2023 كان التونسي ماهر قاسم (40 عاماً)، يستعد للهجرة نحو فرنسا بصحبة أسرته المكونة من أربعة أفراد، بهدف تحسين أوضاعه الاجتماعية والمالية، قبل أن يغير اتجاهه بالهجرة داخلياً نحو جنوب بلاده، ويقرر الاستقرار في مدينة جربة التي تبعد 500 كلم عن العاصمة تونس.
يصف قاسم، في حديث لـ"العربي الجديد"، هجرته الداخلية من العاصمة تونس نحو مدينة جربة بالقرار الصائب، بعدما لمس خلال أشهر قليلة تحسن وضعه المالي والاجتماعي نتيجة انخفاض نفقاته الأسرية الشهرية بنسبة لا تقل عن 30%.
يقول المتحدث: "يبلغ معدل الدخل الشهري لأسرتي نحو أربعة آلاف دينار شهرياً (1300 دولار)، ومع ذلك كنت لا أقدر على استكمال الشهر دون اللجوء إلى التداين عندما كنت أقيم في العاصمة، حيث تلتهم القروض وفواتير الإيجار أكثر من ثلثي راتبي وراتب زوجتي".

الانتقال إلى مدينة جربة

ولكن الوضع بات مختلفاً جداً مع قاسم بعدما انتقل للعيش في مدينة جربة (جنوب شرق)، حيث تمكن من توفير 400 دينار (130 دولاراً)، من قيمة الإيجار، كما تراجعت نفقاته المخصصة للأكل ودراسة ابنه، وفق تأكيده.
وقال: "أدفع حالياً 800 دينار شهرياً (260 دولاراً)، مقابل إيجار فيلا كبيرة تحتوي على حديقة وموقف سيارات، مقابل 1200 دينار كنت أدفعها لكراء شقة في أحد أحياء العاصمة تونس".
وتظهر بيانات أصدرها موقع "مبوّب" المتخصص في العقارات أن سوق الإيجارات في تونس سجل ارتفاعاً في متوسط أسعار الإيجارات طويلة الأجل يصل إلى 11.42%، وأن متوسط سعر إيجار المتر المربع الواحد في ضواحي العاصمة تونس بات يراوح ما بين 194 و289 ديناراً.

ويؤكد قاسم أن الإيجارات من أكثر النفقات المرهقة للتونسيين المقيمين في المدن الكبرى والعاصمة، مشيراً إلى أن انخفاض إنفاقه على الإيجار سمح له بتوفير مبلغ مالي شهري يضعه في حساب ادخار، وهو ترف لم يكن يحلم به عندما كان مقيماً في العاصمة تونس.
وباستعادة قدرته على إدارة التصرف المالي في موارده الشهرية والادخار، يقول قاسم إنه استعاد مكانته الاجتماعية، ضمن الطبقة المتوسطة العليا، بعد أن كان يلامس الطبقة المتوسطة الدنيا عندما كان مقيماً في العاصمة نتيجة الصعوبات المالية والاقتصادية التي يواجهها.
ويعد الرجل الأربعيني واحداً من مئات التونسيين الذين باتوا يفضلون الهجرة الداخلية من المدن الكبرى نحو المحافظات الداخلية هرباً من ضغوط الحياة وكلفة المعيشة الغالية.

انهيار الطبقة الوسطى في تونس بسبب الغلاء

تلقي الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس بظلالها على مستوى عيش الأسر، حيث سجلت دراسات اجتماعية انهيار الطبقة الوسطى التي كانت تشكل العمود الفقري للمجتمع التونسي.
وأظهرت دراسة أصدرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 أن الطبقة الوسطى في تونس تراجعت بصفة ملحوظة منذ 2011، في ظل ضعف كبير ومتواصل لنسبة النمو واكتساح المنطق السلعي لكل مجالات الحياة والأزمة المستمرة للمالية العمومية وضغوطات التضخم المالي المستمر في مستويات عالية.
وقبل عام 2011 كانت الطبقة الوسطى تمثل حوالي 60% من المجتمع وتراجعت منذ ذلك الوقت حتى أصبحت تمثل حوالي 30%، نسبة ضئيلة منها التحقت بشريحة الأغنياء التي تعززت صفوفها بتجار الاقتصاد الموازي الذي عرف انتعاشة مشهودة في ظل انهيار الدولة وانتشار الفساد، والنسبة الأخرى الأكبر من الطبقة المتوسطة التحقت بصفوف الشرائح السفلى الضعيفة والمعوزة، حسب الدراسة.
أما ما تبقى من طبقة وسطى، فقد أصبح يعاني من الديون من أجل الحفاظ على الموقع الاجتماعي نفسه.

ويقول الخبير في التنمية حاتم المليكي إن الهجرة العكسية نحو الداخل بحثاً عن أمل بحياة أفضل قد تكون حلاً ملائماً لأطياف محدودة من التونسيين، مؤكداً أن هذا الخيار وإن كان يسمح للأسر بتحسين وضعها المالي وتوفير بعض الموارد، إلا أن له كلفة أيضاً تتعلق أساساً بنوعية الحياة والقدرة على النفاذ إلى خدمات جيدة.
ويشير المليكي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن المنوال التنموي الذي اعتمدته تونس منذ الاستقلال تسبب في تكدس نحو تسعة ملايين تونسي في الشريط الشرقي للبلاد مقابل نحو 2.5 مليون فقط في الشريط الغربي المصنف أقل تنمية.

حرمان من الرفاهية

واعتبر أن هذا الخيار رافقه توفّر كل مقومات الحياة الجيدة وفرص العمل في المدن الكبرى، ما يجعل لخيار الهجرة العكسية من الشرق نحو غرب تونس سلبيات عديدة، أبرزها الحرمان من فرص العمل والعيش في بيئة لا تتوفر فيها مقومات الرفاه التي يمكن أن يحصل عليها المواطن في المدن الكبرى.
ويعتبر المليكي أن الهجرة العكسية يمكن أن تكون ملائمة لشريحة من المواطنين من أصحاب الدخل المحدود للمساعدة على تحسين ظروف عيشهم وخفض تكاليف ثلاثة عناصر أساسية في الإنفاق الأسري، وهي الإيجار والنقل والترفيه، وبدرجة أقل مصاريف الطعام خارج سلة الغذاء المدعمـة.
وقال: "يعكس التفاوت في مستوى الإنفاق بين المدن التونسية تفاوتاً أيضاً في مستوى معيشة المواطنين ومؤشرات التنمية، لكنه تفاوت لا يظهر بشكل واضح في البيانات الرسمية".
ومنذ عام 2019 أظهر استطلاع أجرته مؤسسة "سيغما كونساي" (مؤسسة دراسات وإحصاء مستقلة)، أن 60.3% من المستجوبين يشعرون باتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، 54.8% منهم يفسرون ذلك بالتضخم، بينما يرى 29.6% أن ذلك ناجم عن البطالة ونقص فرص العمل بشكل عام، بينما يفسرها 19% بفساد أجهزة الدولة و14% آخرون بعدم المساواة في الفرص الاقتصادية.



إقرأ المزيد