العربي الجديد - 2/11/2025 3:27:11 AM - GMT (+3 )

رجل يقف خارج شركة صرافة في بيروت، 1 أكتوبر 2019 (فرانس برس)
شكل رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام حكومته منذ أيام، بعد مسار من تناتش الحصص ما بين الأحزاب التي تسببت بطرق مباشرة وغير مباشرة في إغراق لبنان في واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في التاريخ. العديد من الأسماء التي استلمت الوزارات الحيوية غير مرتبطة بملفات فساد، فيما البعض أتى ممثلاً للمنظومة المصرفية والمالية وعدد من الأطراف السياسية المتهمة بسرقة لبنان وتدمير اقتصاده.
إنه وقت انتشال لبنان من مستنقعه إذن. المهمة غاية في الصعوبة، والمترتبات المتراكمة على بلد منهوب بالكامل واسعة ولا تدل إلا على خراب في كل مكان. فالمنظومة إياها رهنت لبنان لضمان مصالحها منذ نهاية الحرب الأهلية. فرضت سياسات نقدية ومالية تصب كلها في جيوب أعضائها. ومن ثم انتقل لبنان إلى مرحلة جديدة من المصائب، مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري (2005)، وبدء سلسلة الاغتيالات اللاحقة لعدد من السياسيين والمفكرين، ومن ثم حرب تموز/ يوليو 2006، وبعدها عملية اجتياح بيروت في السابع من مايو/ أيار 2008 من قبل حزب الله وأعوانه.
وفي 2011 انطلقت الثورة السورية وكانت انعكاساتها مباشرة على لبنان، ومن ثم انكشفت الأزمة النقدية في العام 2019، وانتشر فيروس كورونا وانفجر مرفأ بيروت، وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية الأخيرة التي دخلها لبنان ضعيفاً بعد تفليسه وتدمير كل مقوماته.
وخلال السنوات الأخيرة من هذا المسار، كان البلد بلا رئيس جمهورية ولا حكومة أصيلة وببرلمان مسلوب الإرادة والفاعلية، وبقضاء مسيّر وأمن مهتز وفقر وبطالة وعوز يغطي لبنان من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه.
الحلول المالية والنقدية للأزمة متوافرة في عشرات الدراسات والأبحاث المحلية والدولية، وأدواتها واضحة ولا تحتاج إلى منجّمين ولا اختراعات، إلا أن المواطنين ينتظرون تغييرات محسوسة وسريعة المفاعيل والنتائج.
وفي حين تبرز القضايا الملحة، مثل إعادة الإعمار وتعويض المدمرة بيوتهم ومصالحهم، إلا أن الخطط الأوسع يجب أن ترتكز على العمل المكثف لتمكين الاقتصاد اللبناني من توليد الوظائف من جديد، مع وصول نسبة البطالة بين الشباب إلى أكثر من 24%، إذ انكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 38% بين عامي 2019 و2024، ما أدى إلى محو أكثر من 15 عاماً من النمو الاقتصادي.
إعادة لبنان إلى مسار النمو تحتاج إلى سنوات من العمل المركّز والجاد خارج إطار منظومة الفساد. وهنا، لا بد من بدء سلسلة متكاملة من الإصلاحات التي قد تقود إلى زيادة الإنتاجية وتوليد الوظائف للمواطنين. والحديث بواقعية يشير إلى جذب استثمارات وتمويلات كافية لدعم نشاط القطاع الخاص، وفي ظل مرحلة تأسيسية لبلد مدمر اقتصاده بالكامل، فإنها فرصة لإعادة الاعتبار للقطاعات الإنتاجية المولدة للوظائف بصيغة مستدامة، عبر تنفيذ خطط زراعية وصناعية خارج إطار المركزية، مع ربط المنتجات بالطموحات التصديرية لضخ العملات الأجنبية من جديد في الاقتصاد. وبطبيعة الحال، كون لبنان يمتاز بمقوماته السياحية لا بد من إعادة تعزيز هذا القطاع وتنميته على أسس أكثر حيوية ومرتبطة أكثر بمسار النمو السياحي العالمي، إن كان من ناحية الاهتمام بالمنتج السياحي، وصولاً إلى عمليات الترويج الدولية.
وجذب التمويل والمشاريع يحتاج إلى ضوابط قانونية وتشريعات حديثة، والأهم يحتاج إلى قضاء مستقل ونزيه بكل مكوناته، بحيث لا يرتاب المستثمر من مليشيات ومافيات قد تكون كلمتها أقوى أمام المحاكم. كما أنه لا بد من تحقيق استقرار أمني فعلي ينهي الفلتان الذي يسيطر على كافة المناطق تقريباً، ما يرهب المواطنين وبطبيعة الحال أصحاب رؤوس الأموال.
ولا يمكن الحديث عن استثمار ووظائف من دون توفير كهرباء ومياه وإنترنت، فهذا الثلاثي الخدمي إضافة إلى أنه حق بديهي للمواطنين يجب توفيره، فهو أساس لجذب استثمارات لا تضطر إلى دفع فواتير مركبة للدولة ولأتباع المليشيات المسيطرين على الخدمات الموازية.
فمنذ 30 عاماً يتعرض قطاع الكهرباء إلى نهب منظم، أدى إلى دفع أكثر من ملياري دولار سنوياً على قطاع لا يولد تغذية كافية لبلد يمتاز بقلة عدد سكانه. وخلال هذه السنوات قام وزراء الطاقة المتعاقبون بخطط ومشاريع كلفت مليارات الدولارات هي الأخرى، إلا أنها انتهت لتكون صفقات إثراء وتحاصصاً للمغانم. ومنذ العام 2021 تصاعدت أزمة الكهرباء لتتقلص التغذية إلى ما بين ساعة وثلاث ساعات يومياً فقط، وما تبقى ممسوك من أصحاب المولدات الخاصة التابعين لأحزاب المافيات والمليشيات، ونزع القطاع من تحت يد هؤلاء سيكون صعباً سياسياً وأمنياً، إلا أن توفير الكهرباء المنتظمة قد يكون أسهل الحلول.
وترابط الأزمات يشير إلى أنه مع فقدان الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها منذ 2019، ارتفعت معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، وصلت إلى 231.3% في عام 2023 بحسب البنك الدولي.
وتأثرت سلسلة التوريد وبدء نقص الوقود، ما نتج عنه ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية وصل إلى 483% في يناير/ كانون الثاني 2022 مقارنة بالعام السابق، وظلّ مرتفعاً في حدود 332%. شهدت أسعار الكهرباء والماء والغاز ارتفاعاً حاداً بلغت نسبته 600%. وهذه النسب التي أوردتها منظمة "هيومن رايتس ووتش" تصاعدت خلال السنتين الماضيتين لتبلغ ذروة جديدة بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان.
ولإعادة الاستقرار لليرة اللبنانية، فإن الإعلان عن سياسة نقدية واضحة ومفصلة أصبح حاجة ملحة، فيما يجب البدء في فتح الملفات الصعبة، وبينما تتوافر الخطط الكافية لإعادة هيكلة المصارف، لا بل أن تكون حقوق المودعين هي الأساس، وإعادة هذه الحقوق تستوجب الدخول إلى مغارة علي بابا من بابها الواسع.
وإضافة إلى فساد حاكم مصرف لبنان وصفقاته، هرّب زعماء المافيا مليارات الدولارات قبل العام 2019، وهذه الأموال كلها يجب أن تخضع للمساءلة ولمحاسبة المرتكبين. ولا بد من البدء بتتبع مسارات الأموال المهربة وإعادتها والحجز على أصول الفاسدين وممتلكاتهم، وتتبع المستفيدين من الهندسات المالية التي قام بها سلامة لصالح عدد من المصارف وبعضها مرتبط بسياسيين، ويجب فتح ملفات الفساد على وسعها وإعادة كل ما سرق من اللبنانيين إليهم، ما يوفر مليارات الدولارات لخزينة الدولة من جيوب من نهب البلد ومن أوصل 80% من سكانه إلى ما دون خط الفقر.
ولكي يكون لضبط الليرة انعكاسات على جيب المواطنين، فإن السبيل إلى ذلك يتضمن ضبط الأسعار، ووقف عمل المافيات التي تغرق لبنان ببضائع مجهولة المصدر وغير خاضعة إلى أي نوع من الرقابة على نوعيتها ومكوناتها، وأيضاً السيطرة على انفلات الاحتكار الذي يدور في فلك العصابة إياها، وهذا كله يستوجب عودة الحياة إلى الأجهزة الرقابية الميدانية والقضائية.
العمل الذي ينتظر الحكومة الحالية واللاحقة ليس سهلاً بالمرة. لبنان حالياً ليس سوى دولة على ورق، حيث إن اقتصاده مدمر بسبب المافيات والمليشيا التي امتهنت سرقة البلد لتعيش، وقضاؤه ينازع أمام سطوة التدخلات، وأمنه يواجه الفلتان، فيما يعاني المواطنون من التعاسة الاجتماعية والاقتصادية، والهجرة القسرية. لكن رغم كل ذلك، أصبح هنالك أمل لا بد من البناء عليه لتأسيس دولة متحررة من المنظومة المافيوية القائمة.
إقرأ المزيد