العربي الجديد - 1/21/2025 4:53:27 PM - GMT (+3 )
معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسورية، 11 ديسمبر 2024 (سكوت بيترسون/Getty)
يمر لبنان بمرحلة حرجة من تاريخه، حيث يعاني أزمات اقتصادية ومالية وسياسية متشابكة تهدد استقراره وتنميته المستدامة. فمنذ سنوات، فقدت الدولة اللبنانية الكثير من مقومات الاستقرار، ما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي، وتراجع الثقة بين المواطنين والمؤسسات الحكومية، إلى جانب تداعيات الأزمات الأمنية الإقليمية والمحلية. في ظل هذه الظروف، تظل استعادة الثقة وإعادة بناء المؤسسات هما المفتاح الأهم لاستعادة لبنان مكانته في المجتمع الدولي وتحفيز الاستثمار والنمو.
تتمثل أبرز التحديات التي تواجه لبنان في ضرورة تنفيذ إصلاحات جذرية على الصعيدين الاقتصادي والمالي، لضمان استقرار القطاع الخاص وجذب الاستثمارات الداخلية والخارجية. ويعد وجود بيئة قانونية ومؤسسية مستقرة، تعمل على حماية الاستثمارات وتوفير الحوافز للنمو، من العوامل الأساسية التي يجب العمل عليها بجدية. كما أن إعادة بناء العلاقات مع الدول الجارة وتعزيز التعاون الاقتصادي معها يشكل أحد الحلول الممكنة لإعادة تفعيل التبادل التجاري وتنشيط الاقتصاد اللبناني.
وفي الوقت الذي تبدو فيه الصورة قاتمة من خلال الأزمات المستمرة، إلا أن هناك فرصة حقيقية لتغيير مسار لبنان إذا ما تم التعامل مع هذه التحديات بشكل استراتيجي ومنظم. هذا يتطلب تكاتف الجهود بين القطاعين العام والخاص، وتنفيذ إصلاحات حقيقية، فضلاً عن بناء مؤسسات قوية قادرة على مواجهة الأزمات المستقبلية.
كما أن للأحداث الأخيرة في سورية والحرب الأخيرة التي شهدها لبنان شكلت محطات مفصلية في تاريخ لبنان الحديث، إذ كانت لهما تأثيرات عميقة على الواقعين السياسي والاقتصادي في البلاد. ففي عام 2011، اندلعت الأزمة السورية التي سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية، مما أدى إلى تداعيات كبيرة على لبنان، ولا سيما على المستوى الأمني والإنساني. فقد أصبح لبنان ساحة لتداعيات الأزمة السورية، سواء من خلال استقبال أعداد ضخمة من اللاجئين السوريين أو عبر التأثيرات الأمنية الناتجة عن النزاع المسلح عبر الحدود.
علاوة على ذلك، ساهمت التطورات السياسية في سورية في تعميق الانقسامات الداخلية في لبنان، حيث تداخلت المصالح الإقليمية والدولية، مما أضاف أعباء إضافية على اللبنانيين. ما يواجهه لبنان اليوم من تحديات مرتبط بشكل كبير بتلك الحقبات المؤلمة، حيث يجب أن يعمل لبنان على تجاوز هذه الجروح التاريخية، من خلال بناء مؤسسات قوية ومستقلة، وتعزيز ثقافة الحوار والتعايش بين جميع أطياف المجتمع اللبناني.
في هذا السياق، صرح رئيس الاتحاد الدولي لرجال وسيدات الأعمال في لبنان، فؤاد زمكحل، في حديث مع "العربي الجديد"، أن انتشار الجيش اللبناني في كل الأراضي اللبنانية ليصبح الحامي الوحيد للأرض والشعب، ويشرف على المعابر، سيسهم في إعادة الثقة والأمل، ورغم أنه لا يجلب الاستثمارات بشكل مباشر، لكنه يشكل حجر الأساس لإعادة بناء الدولة ونهاية الدويلات.
وأضاف زمكحل أن التغيرات السياسية في سورية، مع التركيز على الشق الاقتصادي وليس السياسي، تُعتبر مهمة. وأوضح أن هناك علاقات قائمة بين لبنان وسورية، ولكن يجب عدم نسيان أن النظام السوري السابق كان له تداعيات سياسية واقتصادية ومالية ونقدية سلبية على لبنان، مشيراً إلى أن التبادل التجاري بين البلدين كان ضئيلاً جداً، في حين أن التبادل غير الرسمي، مثل الاقتصاد الأسود والكبتاغون وتمويل الإرهاب وغسيل الأموال، كان واسعاً. من هنا، أرى أنه على النظام السوري الجديد بناء علاقات أكثر شفافية بين البلدين وإعادة بناء التبادل التجاري بوضوح.
وأكد أن التحدي الأكبر الذي يواجه رجال الأعمال اللبنانيين هو إعادة بناء الثقة، التي فقدوها بين بعضهم البعض وبين الدولة اللبنانية. بدورها، فقدت الدولة ثقة المجتمع الدولي، ومن دون الثقة لا يوجد استثمار أو تنمية. وأضاف أن استعادة الثقة قد تتطلب عقوداً من الزمن، كما أن المستثمرين يبحثون عن ضمانات لسلامة استثماراتهم، بما في ذلك العدالة وحماية أموالهم، وهو ما افتقده لبنان خلال السنوات الماضية.
وأوضح أن الحرب الأخيرة على لبنان أدت إلى إدراجه على اللائحة الرمادية، وهو أمر لم يكن مفاجئاً، إذ إن لبنان منذ عام 2020 تحول من اقتصاد مصرفي مراقب دولياً إلى اقتصاد هش. وأشار إلى التحذيرات المتكررة من المنظمة المالية الدولية التي كانت تحذر لبنان من مخاطر وضعه على اللائحة الرمادية. وفي إبريل\نيسان 2023، منحت المنظمة الدولة اللبنانية مهلة لتنفيذ الإصلاحات. وفي إبريل\نيسان 2024، كانت اللجنة قد أعطت فرصة لحاكم مصرف لبنان بالإنابة، وتم تأجيل الأمر حتى شهر يونيو\حزيران 2024 ليتمكن الحاكم بالإنابة من التفاوض مع المصارف المراسلة وحماية الاقتصاد اللبناني. وحذر من أن لبنان يواجه مخاطر كبيرة بإدراجه على اللائحة السوداء، كما هو الحال مع كوريا الشمالية وإيران.
وأضاف أن لبنان يجب أن يتبع مثال تركيا وجزر جامايكا، اللتين خرجتا من اللائحة الرمادية في عام 2020 بفضل الإصلاحات اللازمة. وأكد أنه في حال عدم تنفيذ هذه الإصلاحات، سيترتب على لبنان عقوبات مالية ونقدية كارثية.
وأشار إلى أن الدولة اليوم عاجزة عن جذب الاستثمارات الخارجية وحتى الداخلية بسبب الأحداث والأزمات التي تمر بها البلاد بشكل مفاجئ، والمستثمرين تعبوا من إعادة البناء على أوهام، ولن تكون هناك استثمارات داخلية قبل بناء الدولة والمؤسسات، وإعادة دخول لبنان في دورة اقتصادية جديدة وبناء نظام مصرفي. ورغم التفاؤل بالحصول على فرص جديدة، إلا أن التفاؤل يبقى حذراً، لأن المسؤولين عن الأزمات المالية والأمنية ما زالوا أصحاب القرار.
وأكد أن القطاع الخاص اللبناني قد اجتمع عدة مرات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهو جاهز لتطبيق الإصلاحات المطلوبة. لكنه أشار إلى أن المشكلة لا تكمن في القطاع الخاص، بل في تراجع القطاع العام بسرعة فائقة خلال السنوات الأخيرة، كما جاء في تقارير البنك الدولي. والأزمة الحالية التي يعيشها لبنان تعد من أكبر الأزمات المالية والنقدية في تاريخ العالم، وأن البعض يعتبرها أزمة متعمدة ليس فقط داخلياً، بل قد تكون إقليمياً ودولياً، وحذر من أنه لا يمكن إعادة النمو من دون بناء مؤسسات الدولة التي دُمّرت داخلياً.
وتابع قائلاً أن التفاؤل الذي يحمله حذر بسبب تطورات الأوضاع، ولكن سقوط النظام السوري الذي كان له تأثير سلبي على لبنان خلال الثلاثين سنة الماضية، ونشر الجيش اللبناني على كل الأراضي اللبنانية، تعتبر فرصة ذهبية لإعادة بناء دولة حقيقية مسؤولة عن قراراتها. وقد يكون هذا العام أحد أفضل الأعوام للبنان في مجال الاستثمار والتنمية، أو قد يكون الأسوأ.
وفي قلب بيروت، كان علي- رجل أعمال لبناني شاب - يتابع من كثب ما يحدث في بلاده، على الرغم من النجاح الذي حققه في الماضي في مجال الاستثمارات العقارية، كان يواجه اليوم تحديات لم يواجهها من قبل. كانت البلاد تمر بظروف اقتصادية قاسية، مع تدهور الليرة اللبنانية، وزيادة معدلات البطالة، وتدهور البنية التحتية وصولاً إلى الحرب الاخيرة بين إسرائيل وحزب الله. لقد قام راشد سابقًا باستثمار مبالغ كبيرة في مشاريع عقارية فاخرة في وسط بيروت، وكان يشهد الأرباح بشكل مستمر، لكنه الآن بدأ يشك في جدوى إعادة استثمار الأموال في لبنان.
كلما نظر إلى الوضع الأمني، كانت المخاوف تزداد. بداية من التظاهرات في الشوارع في عام 2019 ، وتفشي العنف في بعض المناطق، وصعوبة الوصول إلى الخدمات الأساسية كانت كلها تشير إلى أن الأوضاع لن تتحسن في القريب العاجل. لكن في المقابل، كان لديه شعورعميق بالانتماء إلى وطنه وضرورة الحفاظ على الاقتصاد المحلي، فلبنان كان في يوم من الأيام منارة للأعمال في منطقة الشرق الأوسط. وقال: "الاستثمار في لبنان في الوقت الحالي يشبه السير على حافة سكين، الأوضاع الأمنية والسياسية تزداد تعقيدًا، والاقتصاد يعاني ركودًا كبيرًا. لكن، إذا قررت المضي قدمًا، يجب أن أكون مستعدًا للتعامل مع التقلبات، وأحتاج إلى استثمارات أكثر أمانًا مثل العقارات ذات العائد الثابت.
لكن علي لم يكن مقتنعًا، فهو كان يراهن في الماضي على قدرة لبنان على النهوض من أزماته، ولكنه الآن بدأ يشعر أن هذا التوجه قد لا يكون حكيمًا في ظل هذه الأوقات الصعبة. بدا له أن النواحي الأمنية، مثل الاضطرابات المتكررة في المناطق الحدودية، قد تضر بسمعة السوق اللبناني في الخارج، مما يقلل من إقبال المستثمرين الأجانب.
أما غسان المغترب في إحدى دول الخليج، كان قد قرر في البداية توسيع استثماراته في لبنان، حيث كان يخطط لإطلاق مشروع سياحي ضخم في منطقة جبل لبنان، كان المشروع سيكون مصدرًا كبيرًا للوظائف في المنطقة ويعزز الاقتصاد المحلي، لكن مع كل أزمة جديدة كانت تندلع في البلاد، بدأ يشعر بأن استثماره قد يكون مخاطرة كبيرة. كان يواجه معركة داخلية، فهو يعلم أن وضع لبنان لا يبعث على التفاؤل، ولكن من جهة أخرى، لديه إيمان عميق بقدرة اللبنانيين على الصمود والنجاح. أراد أن يكون جزءًا من هذا التغيير، ويساعد في إحياء الاقتصاد، حتى لو كان ذلك يعني تحمل بعض المخاطر.
وقرر غسان بدل المضي قدمًا في مشروع سياحي ضخم يتطلب استثمارات ضخمة قد تكون عرضة للأزمات السياسية، قرر أن يوجه استثماراته إلى مشاريع صغيرة ومتوسطة تركز على تحسين الظروف الحياتية في المناطق الأقل حظًا. وكان استثماره في المشاريع الزراعية المستدامة، التي يمكن أن تساهم في تأمين الغذاء المحلي وتوفير فرص عمل لشريحة واسعة من الشباب اللبناني.
وبالاشارة إلى أن لبنان يعاني أزمة اقتصادية غير مسبوقة، تعتبر واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في التاريخ الحديث. منذ عام 2019، دخل لبنان في دوامة من الانهيار المالي والنقدي، ما أدى إلى تدهور قيمة الليرة اللبنانية، وارتفاع معدلات البطالة والفقر بشكل غير مسبوق. كما فشلت الحكومة اللبنانية في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي طالبت بها المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، مما أدى إلى تراجع الثقة في الاقتصاد الوطني. من جانب آخر، يعاني لبنان أزمات سياسية معقدة، حيث إن الفراغ الرئاسي منذ عام 2022 وزيادة الانقسامات السياسية تعرقل التوصل إلى حلول جذرية لأزمة لبنان الاقتصادية.
أما سورية، فقد مرت بسنوات من الحرب الأهلية التي دمرت البنية التحتية للبلاد وأثرت كثيرًا على اقتصادها. وعلى الرغم من بعض الجهود لإعادة بناء البلاد، يعاني الاقتصاد السوري مشكلات كبيرة، بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض الإنتاج المحلي، وأزمة في توفير الطاقة والموارد الأساسية. سورية تحت وطأة العقوبات الدولية، والتي فاقمت من تداعيات الحرب على الاقتصاد الوطني. كذلك، يؤثر النزاع المستمر في بعض المناطق السورية على قدرتها في جذب الاستثمارات الدولية أو استعادة علاقات تجارية قوية مع دول الجوار.
من جانب ثان، شهدت العلاقات الاقتصادية بين لبنان وسورية تحولات كبيرة، حيث كانت في البداية علاقة اقتصادية وثيقة نظراً إلى وجود الروابط التجارية والتاريخية بين البلدين، في فترة ما قبل الحرب السورية، كان لبنان يعتمد على سورية داعماً رئيسياً للصادرات والواردات، إلى جانب التبادل التجاري غير الرسمي الذي شمل التهريب وعمليات غسيل الأموال.
لكن مع اندلاع الحرب في سورية في عام 2011، تغيرت هذه العلاقات بشكل جذري. فقد تأثرت الصادرات اللبنانية إلى سورية بشكل كبير بسبب تداعيات الحرب، في حين كانت العلاقات الاقتصادية بين البلدين تتسم بوجود الكثير من المخاطر القانونية بسبب نشاطات غير رسمية ونقل السلع عبر الحدود بطريقة غير قانونية.
ومع تغيير النظام في سورية، يُتوقع أن يحدث تحول في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، في حين أشار بعض الخبراء إلى أن التغيير يمكن أن يشمل إنشاء آليات للتبادل التجاري أكثر شفافية، ويعود ذلك إلى الحاجة الملحة إلى إعادة بناء الاقتصاد في كلا البلدين بعد سنوات من النزاعات والأزمات الاقتصادية. ومع ذلك، من الممكن أن تكون هناك تحديات كبيرة في تنفيذ هذا التحول، حيث لا تزال هناك مخاوف من الانقسام الداخلي في سورية واستمرار التوترات السياسية.
في ظل التحديات الكبيرة التي تواجه لبنان وسورية، يبقى الأمل في إمكانية تحقيق تغيير إيجابي إذا تم التعامل مع هذه التحديات بشكل مشترك. وتبقى فرص التعاون بين البلدين قائمة، لكنها تتطلب جهودًا من كل الأطراف لإعادة بناء الثقة، وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة. إذا تمكن لبنان وسورية من التغلب على العقبات السياسية والاقتصادية، فقد يصبحان قادرين على إعادة بناء اقتصادهما والمساهمة في استقرار المنطقة عامة.
إقرأ المزيد