مسلسل الصومعة من منظور اقتصادي
العربي الجديد -

الدول المعتمدة على الاستيراد تواجه صعوبات في إنتاج احتياجاتها (الأناضول)

في مستقبل ديستوبي وبعد وقوع كارثة ذات معالم غامضة تعيش مجموعة كبيرة من الناس داخل صومعة عملاقة تمتد لمئات الطوابق تحت الأرض، يعتقد السكان أن هذا المكان المليء بالقوانين من طرف "اللجنة" هو الوحيد القادر على حمايتهم من العالم الملوّث والمدمّر على السطح، وأن العالم الخارجي غير صالح للعيش، وقد فرضت "اللجنة" نظاماً صارماً حرمت فيه السكان من معرفة أسباب وجودهم في الصومعة وما حدث للعالم قبل بنائها. وسرعان ما يكتشف الخارج من الصومعة أن العالم الخارجي ليس كما قيل لهم، وأن هناك حقيقة مخبأة، ليبدأ الغموض والتشويق وحل اللغز على يد بطلة المسلسل ريبيكا فيرغسون.

تابع مشاهدو مسلسل silo الأميركي المقتبس أصلاً من رواية بذات الاسم من تأليف هيو هاوي موضوعات عديدة مثل السيطرة والسلطة السياسية والحريات، ربما ركز البعض على زاوية الاستبداد والحرمان وترهيب السكان ومراقبتهم في الشوارع والمنازل، وآخرون رأوا فيه زاوية اجتماعية تتعلق بالطبقية والتمييز وتحديد النسل، أو وجدوا فيه قضايا تتعلق بالعمل والفقر والثراء ومصير الأرض وحياة الإنسان وتحكم الأيديولوجيات والعادات والتقاليد.

وقد لا يلفت انتباهك كلّ تلك القضايا فتنظر إليه من ناحية الطرح الدرامي والحبكة التشويقية، وبينما يروي أحدهم قصة الحرية والسلطة والطبقية والفقر تحكي أنت جودة التمثيل والبيئة والإخراج والإنتاج. أما بالنسبة لي، فقد شاهدت زوايا اقتصادية أثارت حفيظتي للكتابة وأود مشاركتها فيما يلي:

النظام الاقتصادي: الصورة مختلفة

صوّر الكاتب أن الأشخاص داخل الصومعة يرون حياة ملوّثة ومميتة في الخارج وباتت الصورة الرائجة في أذهان السكان، لم تعد هناك حاجة لإقناع أحد بهذه السردية، حيث تولى الكل نشرها وإقناع أنفسهم والآخرين بها، إلا المتمردين على الواقع والصورة النمطية والواعين الذين يبحثون دوماً عن تفسير لكل شيء ولا تقنعهم روايات العامة.

لنأت على صورة اقتصادية مؤرّقة لا تزال تثير نقاشات وجدالات كثيرة على سطح المعمورة أو "الصومعة" إن جاز التعبير: هل النظام الرأسمالي هو النظام الاقتصادي الوحيد لتحقيق الازدهار والرفاه؟

جعلت الولايات المتحدة من الرأسمالية النظام السائد في العالم، وفرضت في أحيان كثيرة على العديد من الدول اتباع هذا النظام. أصبحت هذه الدول وسكانها كأنهم يعيشون في صومعة، بينما تقوم أميركا بدور "اللجنة" التي تدير الصومعة وتخوّف الجميع من أن الابتعاد عن هذا النظام سيؤدي إلى الفشل، ومن يتجاوز هذا النظام ويخرج من الصومعة يكتشف أن هناك أنظمة اقتصادية أخرى ناجحة أيضاً!

تعتمد الرأسمالية على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتركيزها على خلق السلع والخدمات بغرض تحقيق الربح، ولا شيء غير الربح. ويتم التركيز على العمل المأجور ووجود أسواق تنافسية. الأشخاص الذي يملكون وسائل الإنتاج يهتمون بشكل رئيسي بزيادة الإنتاج وتعزيز ثقافة الاستهلاك لتحقيق مراكمة أكبر قدر من الثروة. يدفعهم هذا النظام للبحث باستمرار عن أسواق جديدة لزيادة المبيعات. ولكن، قد يؤدي الجشع لدى القائمين على إدارة الموارد إلى أضرار جسيمة، مثل تأثيرات سلبية على صحة الإنسان والمناخ، وتلوث البيئة. كما يمكن أن يسهم في تعزيز الفوارق بين الأشخاص ويؤدي إلى انتهاكات في حقوق العمال وترويج منتجات أو خدمات قد تكون في الواقع مضرة.

وتعمل "اللجنة" من خلال مؤسسات عريقة أبرزها صندوق النقد والبنك الدوليان. تستغل هذه المؤسسات الفرص التي تظهر عندما يواجه اقتصاد دولة معينة ضائقة مالية أو أزمات، تقدم لها الديون وتفرض عليها إجراءات صارمة لقاء دخولها في نادي الرأسماليين، تؤدي في نهاية المطاف لإغراقها في المزيد من الالتزامات المالية وأزمات قد لا تنتهي.

النظرية المعاكسة للرأسمالية هي الاشتراكية. يعتبر مروجو هذه النظرية مثلما يعتبر مروجو الرأسمالية، أن نظريتهم هي الوحيدة القادرة على تحقيق الازدهار والرفاهية، وينتقدون الرأسمالية بأنها نظام غير عادلة وغير مستدام. تعتمد الاشتراكية على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، والتخطيط الاقتصادي، والعمل الجماعي، ومبادئ العدالة الاجتماعية. فيظل السؤال قائماً أي من هذين النظامين يعكس الحقيقة؟

بينما رفضت بلدان عدّة حول العالم الالتزام بإحدى النظريتين، قامت بتطبيق نظام اقتصادي خاص بها يجميع بين مبادئ النظامين. وفرت هذه البلدان خدمات اجتماعية عبر الحكومة، مثل الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم. كما عملت على إيجاد توازن بين الحرية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وبين الملكية الخاصة والعامة، وبين التعويم والتثبيت، فجمعت بين النقيضين وسطّرت لنفسها نظاماً اقتصادياً متمايزاً عرف بأسماء مثل "دولة الرفاه" أو "الرأسمالية الاجتماعية" أو "السوق الحر الاجتماعي" أو "الاقتصاد المختلط".

يجب على الدول التي تسعى للتقدم أن تتجاوز النماذج الجاهزة وتصمم نظاماً اقتصادياً يتناسب مع مواردها وظروفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. سيصبح عندها القرار بشأن تعويم العملة، وتحرير الأسواق، والاستثمار الأجنبي، مرتبطاً برؤية الحكومة نفسها لا برؤية النظام الاقتصادي العالمي ورغبات "اللجنة".

النمو الاقتصادي: زاوية رياضية أم اجتماعية

استناداً إلى النهج الرأسمالي، قدّم الاقتصادي ألفريد مرشال في القرن التاسع عشر تعريفاً لظاهرة النمو الاقتصادي، معرفاً إياها بأنه "زيادة في الثروة المادية". ومع مرور الزمن، شهد هذا التعريف تطوراً وتعديلات من قبل العديد من الاقتصاديين، حيث أضيفت إليه مفاهيم مثل: زيادة رفاهية السكان، وزيادة في الإنتاجية، وزيادة في الابتكار، وزيادة في التجارة الحرة.

اعتبرت "اللجنة" أن النمو الاقتصادي هو الهدف الأسمى للاقتصاد ومعيار لقياس نهضته وتطوره، وساهم العديد في تأليف الكتب وإجراء الأبحاث التي تتناول تحريك معدلات النمو الاقتصادي. وقد منحت جائزة نوبل في الاقتصاد لبول رومر تقديراً لكتابه "نظرية النمو الداخلي"، وفيه يرى رومر أن الابتكار هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي.

وبالتالي أصبحت الدول تسعى بشكل متزايد نحو تعزيز الابتكار لزيادة إنتاج السلع والخدمات، مما يعزز فرص العمل ويحسّن مستويات المعيشة. ولا يمر يوم دون أن نسمع في الأخبار الاقتصادية عن معدل النمو الاقتصادي لبلد معين والتنافس الشديد بين البلدان لتحقيق أعلى معدلات نمو، وتأسست مجموعات بين دول العالم تصنف الدول السبعة والدول العشرين ذات الاقتصادات الأكبر.

وفي هذا التسابق نحو النمو المادي، قد تتجاهل الدول الجوانب الاجتماعية والتحديات المرتبطة بالفقر والطبقية والتوزع الحضري والتغيرات المناخية؟

إلى أن جاء اقتصاديون آخرون ممن قاموا بتحدي هذه النظرية السائدة وانقلبوا على "اللجنة"، قدموا تعريفاً جديداً للنمو الاقتصادي، معتبرين أنه يجب أن ينعكس زيادة في المساواة الاقتصادية، كما يرى الاقتصادي جوزيف ستيغليتز والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد.

أجد نفسي متفقاً مع هذا التعريف أكثر من غيره، حيث يجعل من النمو الاقتصادي والمؤشرات المرتبطة به وسيلة لتحقيق المساواة بين أفراد المجتمع. وبالتأكيد سيثير هذا التعريف استياء "اللجنة". فالمساواة الاقتصادية وعدالة توزيع الثروات لا تأتي ضمن أولوياتها أو مفردات قاموسها، ولتحقيق هذه المساواة، يتطلب الأمر فرض ضرائب مرتفعة على الأثرياء بهدف إعادة توزيع الثروة بين جميع فئات المجتمع. يمكن أن تتجلى المساواة الاقتصادية عندما يحصل الأفراد على تعليم ورعاية صحية عالية الجودة، وعند توفر قوانين تضمن العدالة بين العمال وأصحاب الشركات والأعمال.

وما هو أخطر من كل ما سبق ذكره هو القناعة التي انتشرت بين الدول الغنية بالثروات الطبيعية بأن التصنيع وإنتاج احتياجات السكان ليس ضرورياً، مما دفعها للاعتماد بشكل مفرط على الاستيراد.

بينما عملت الدول المتقدمة إلى استيراد المواد الخام وتصنيع منتجات وخدمات وبيعها لتلك الدول بعد تحقيق أرباح كبيرة. وبينما تستمر الدول المصنّعة في التقدم والتطور، تواجه الدول المعتمدة على الاستيراد تراجعاً مع وصولها إلى نقطة حرجة من نضوب ثرواتها الطبيعية، ما يترك شعوبها في موقف محرج من عدم القدرة على إنتاج أبسط احتياجاتها.

في النهاية، قدّم مسلسل "الصومعة" نظرة ثاقبة حول الطبيعة البشرية، وكيفية تشكيل ظروف المجتمع وقيمه، وبالرغم من الحقيقة المريرة التي سلّط عليها الضوء حول قدرة مجموعة قليلة من الأشخاص على التحكم بأعداد كبيرة من المواطنين فإنه أظهر أيضاً أفرادا واعين يرفضون هذا الواقع، والنظريات المعلّبة، ويسعون نحو الأفضل.

وبالنظر إلى الزاوية الاقتصادية التي تناولتها، هناك اقتصاديون مستنيرون ينظرون إلى الموارد وإدارتها من منظور اجتماعي وليس فقط من منظور رياضي. هؤلاء الاقتصاديون يُعطون أولوية للمساواة الاقتصادية على زيادة الأرقام. وقد ترك المسلسل وراءه أسئلة عديدة جديرة بالنقاش والتأمل تشمل العديد من جوانب الحياة.



إقرأ المزيد