رغبة ترامب بانتزاع غرينلاند... صراع على النفوذ في القطب الشمالي
العربي الجديد -

ترامب خلال لقاء مع أمير ويلز، باريس 7 ديسمبر 2024 (Getty)

ارتفعت نبرة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، خلال الساعات الماضية، بشأن احتمالية السيطرة بالإكراه على غرينلاند وقناة بنما. تصريحاته تزامنت مع زيارة استعراضية لنجله ترامب جونيور بطائرة والده إلى عاصمة الجزيرة نوك أمس الثلاثاء، وأكد فيها أن"هذه صفقةٌ يجب أن تتم".

اهتمام ترامب بشراء الجزيرة الضخمة، التي يتجاوز حجمها مليوني كيلومتر مربع ونحو 56 ألف نسمة، لم يتراجع منذ 2019. وبرر ترامب تصريحاته في مؤتمره الصحافي الأول بعد موافقة الكونغرس على فوزه بالرئاسة بذريعة أمن بلاده الاقتصادي، وباتت تصريحاته تثير هواجس وقلق الدنمارك وبعض أوروبا. والتقطت باريس ما يجري للتعبير عن رفضها للغة التهديد من ترامب وضررها على مصالح وعلاقات ضفتي الأطلسي. كذلك فعلت برلين التي حذرت من أنه لا يجوز تغيير حدود الدول بالقوة، وأن على الدول الالتزام بتطبيق مبادئ الأمم المتحدة وإعلان هلسنكي بهذا الشأن.

وفي كوبنهاغن، المعنية بالسيادة على غرينلاند، شدد وزير خارجيتها لارس لوكا راسموسن ظهر اليوم الأربعاء على أهمية "المسؤولية الجماعية في الحفاظ على وحدة مملكة الدنمارك وحماية الجزء الخاص بنا في القطب الشمالي، في عالم يبدو أكثر غموضا". راسموسن أكد أن بلده منفتح على الحوار مع الأميركيين لتعاون أوثق لضمان طموحاتهم". ونقلت وسائل الإعلام المحلية قول رئيسة الحكومة ميتا فريدركسن: "غرينلاند ليست للبيع". يأتي ذلك وسط تحذيرات من أن الدنمارك ربما تواجه أصعب أزمة دبلوماسية مع عقلية الصفقات الإجبارية في علاقتها بواشنطن بعد ولوج ترامب إلى البيت الأبيض.

ويشعر البلد الاسكندنافي الصغير (5.6 ملايين نسمة) بامتعاض من تصريحات ترامب ونجله، والمساهمة في إثارة لغط وشكوك جدية حيال ما ينتظر أوروبا عموما في تحديات العلاقة مع الحليف الأميركي خلال الأعوام القادمة.

صحيح أن فترة ترامب السابقة شهدت توترا في العلاقة مع أوروبا، وخاصة على المستوى التجاري والموازنات الدفاعية، إلا أن استخدام لغة تهديد الدنمارك بحرب تجارية، وفرض تعريفة خاصة على بضائعها إلى واشنطن، يأخذان كوبنهاغن وعواصم أوروبية نحو ما هو أبعد من حضيض علاقة الحليفين بين 2018 و2020. آنذاك، وتّر ترامب العلاقة بتصريحاته وتلميحاته المزعزعة لرسوخ التعهد الأميركي بالدفاع عن القارة العجوز ضد عدو خارجي، فارضا تحت سقف حلف شمال الأطلسي (ناتو)، تخصيص الدول الأعضاء نسبة 2% من ناتجها الإجمالي على الدفاع. واليوم، يبدو ترامب أكثر توسعا في توتير العلاقات، حيث تصبح كندا، الجار الشمالي والحليف تحت سقف الناتو، على قائمة الشهوة الترامبية التوسعية، إضافة إلى العودة مجددا نحو طرح رفع النسبة المئوية للدفاع إلى 5% بدل 2%.

أهمية السيطرة على غرينلاند

علاقة واشنطن بجزيرة غرينلاند ممتدة منذ الحرب العالمية الثانية بنت فيها قاعدة عسكرية، وأهمها ثولا، التي لعبت دورا مهما في فترة الحرب الباردة (1949-1992). ووسعت نشاطها العسكري وتعاونها مع الدنمارك في غرينلاند بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. ومثلما تفهم واشنطن أهمية الوجود في المنطقة القطبية، فإن الأوروبيين يدركون أيضا مصالحهم الكبيرة في المنطقة، وعلى أساس أن من يسيطر على الجزيرة الجليدية الضخمة، بموقعها الحيوي والاستراتيجي بين المحيط المتجمد الشمالي والمحيط الأطلسي، وإلى الشرق من جزر القطب الشمالي التابعة لكندا، قادر على السيطرة على المنطقة القطبية برمتها.

في مقابل ذلك، ثمة فهم روسي- صيني لتلك الأهمية، حيث التنافس الأميركي مع بكين وموسكو لا ينفصل عن اعتبار أن غرينلاند والمنطقة القطبية بأسرها تحويان معادن مهمة ونادرة، وغيرها الكثير من المواد الخام الأخرى. الأميركيون، الذين يعولون أيضا على وجود كميات هائلة من الذهب في عمق أراضي غرينلاند، راقبوا في السنوات الأخيرة محاولات بكين ترسيخ موطئ قدم فوق غرينلاند، بوعود استثمارية ضخمة في المطارات والسياحة والموانئ وجعلها عقدة مواصلات، وتلك محاولات فرملتها تبعية الجزيرة للسيادة الدنماركية، رغم إرسال بكين بضع مئات من مواطنيها للعمل في غرينلاند.

كما أن روسيا، ومنذ أن سيطرت على شبه جزيرة القرم في 2014، بدأت تعزز قواعدها وتوسع مطاراتها العسكرية السوفييتية السابقة في بحر مورمانسك والدائرة القطبية، خصوصا قاعدة ناغورسكوي في جزيرة ألكسندرا في أرخبيل فرانز جوزيف لاند على بعد نحو 250 كيلومترا من قواعد أميركية في أقصى شمال النرويج، وأقل من ألف كيلومتر من غرينلاند، واستدعت حليفها الصيني ليكون مسانداً لها في مواجهة الأغلبية الغربية في مجلس القطب الشمالي (أيسلندا والنرويج والدنمارك وفنلندا والسويد وكندا وأميركا وروسيا).

واستفادت الصين من التغيرات المناخية، وذوبان رقع جليدية ضخمة، دافعة ببواخرها وكاسحات الجليد للعبور في أقصى الشمال بمحاذاة روسيا، كطريق تجاري مختصر نحو أوروبا والقارة الأميركية.

وخلف التصريحات الترامبية الفجة، ثمة اهتمام على المستوى العسكري-الأمني الأميركي بموقع غرينلاند. فالبعض في واشنطن، بحسب تقارير دنماركية متابعة لما يجري، يرى أن غرينلاند تشكل ما يشبه حائط صد دفاعيا-صاروخيا عن أميركا الشمالية. وخصصت الدنمارك، بتعاون أوروبي-أطلسي في السنوات الأخيرة، المزيد من الموارد العسكرية الأمنية في غرينلاند. ومع ذلك، يعتقد بعض من يؤيدون نظرة ترامب، وفقا لتحليلات دنماركية، أن الدنمارك الصغيرة لا تستطيع حماية الجزيرة الضخمة لوحدها، وهذا بنظرهم يتطلب انتزاع السيادة على غرينلاند ووضعها في عهدة "قوة عظمى".

عموما، إصرار ترامب على صيغ السيطرة عنوة على غرينلاند وغيرها، ينذر برأي متابعين في كوبنهاغن بإمكانية حدوث شرخ يتجاوز المس بكومنولث مملكة الدنمارك (تضمها إلى جانب الفارو وغرينلاند)، ليتوسع نحو "دق إسفين" في علاقة حليفي ضفتي الأطلسي، والعودة إلى انخفاض مستويات الثقة وتراجع المواجهة الجماعية لما يقال إنه تحد صيني-روسي، في رمال مصالح تتغير بسرعة ملازمة للتعبير عن أحلام توسعية بين القوى المتصارعة على المصالح الكبيرة.



إقرأ المزيد