دمشق بعد أسبوعين من سقوط الأسد
العربي الجديد -

بعد مضي أسبوعين على سقوط نظام بشار الأسد، لا تزال مظاهر الفرح هي الطاغية في شوارع العاصمة دمشق، إذ لا تزال الاحتفالات اليومية مستمرة في ساحة الأمويين، فيما معظم المحال التجارية والسيارات تطلق الأغاني التي تمجد الثورة التي أسقطت نظام آل الأسد. ومما يلفت الانتباه التحاف الكثير من الشبان والشابات علم الثورة خلال تجوالهم في شوارع دمشق وأسواقها، فيما تنشط ورشات الدهان التي تستبدل شعارات وأعلام النظام السابق بعلم الثورة السورية وشعارات العهد الجديد.

ورشة لاستعادة الحياة

يظهر في دمشق الخراب المادي والمعنوي الذي خلّفه نظام الأسد

هذا المشهد العام الذي يُظهر فرح السوريين بكل مكوناتهم بسقوط الأسد، سرعان ما تُكتشف أسبابه لدى الاقتراب أكثر من تلك الصورة المثالية، فيظهر الخراب المادي والمعنوي الذي خلّفه النظام البائد، كما تظهر مخاوف بعض السوريين من المجهول القادم. فمدينة دمشق بكل حيويتها وتاريخها تبدو كآلة معقدة، منهكة، بدأ يأكلها الصدأ، أبنية ومحال تجارية، جدرانها كئيبة ومتسخة، يوحي مظهرها بأنها لم تخضع لأي صيانة أو تنظيف منذ عشرات السنين، نوافذ تقشر دهانها، وشوارع غابت عنها النظافة والصيانة لسنوات، وكأن المدينة كانت تستهلك نفسها طيلة سنوات الحرب، ومواطنون أغلبهم منهكون من العوز والخوف من المجهول.

في حي الصالحية وسط دمشق، لا يزال مبنى مجلس الشعب مغلقاً وقد وضعت حواجز حديدية أمام بابه من دون وجود عناصر حراسة، ما يدل على أن إغلاقه لأجل غير مسمى، أما الشوارع التي كانت في الأيام الأولى للسقوط أكثر صخباً، فبدأت تعود لحركتها شبه الطبيعية، مع وجود بعض الباعة الجوالين الذين وجدوا في علم الثورة سلعة إضافية يبيعونها على بعض المفارق كنوع جديد من السلع الأكثر رواجاً.

وعلى زاوية شارع الروضة في شارع العابد حيث مقهى الروضة الشهير الذي يرتاده بعض المثقفين المقتدرين، أحاديثهم هذه الأيام كلها تدور حول المرحلة الجديدة المقبلة، بعضهم يبدو متفائلا، فيما بعض آخر بدأ يتحدث عن مخاوف من المستقبل. وهناك قلة منهم يتركز حديثهم على حكومة تسيير الأعمال التي ينعتونها بحكومة الذقون الطويلة والشوارب المحفوفة.

الصحافي سلمان عز قال لـ"العربي الجديد" إنه متفائل جدا بالمرحلة الجديدة، ولكن سقوط النظام هو الحدث الأهم حالياً، برأيه، لأن أي نظام يأتي بعده ولا يلبي مصالح السوريين يمكن التخلص منه بسهولة. وأضاف: "مع ذلك، إلى الآن نراقب رسائل الإدارة الجديدة، كلها مطمئنة، وحتى الآن، تطبيق هذه الرسائل يسير بشكل مقبول، يجب إعطاء بعض الوقت للحكم على الأداء".

أما ريفان الذي يجلس على طاولة أخرى في مقهى الروضة مع مجموعة من أصدقائه، والذي فضل عدم الكشف عن كنيته، قال لـ"العربي الجديد": "أنا غير متفائل بما يجري، فهؤلاء أصحاب اللحى الطويلة سيحكموننا بطريقة ربما أسوأ من النظام الذي مضى، سورية بلد متنوع وليست بلد لون واحد، سمعنا خطابات جيدة، ولكن لا أعتقد أنها ستُطبّق، هؤلاء يتعاملون مع سورية باعتبارها غنيمة حرب، وهناك مخاوف من أن نتخلص من حكم استبدادي علماني لننتقل إلى حكم استبدادي ديني"، معتبراً أن "هذه الرسائل التطمينية هي رسائل لحين التمكن من البلاد".

في حي مساكن برزة في مدينة دمشق، التقت "العربي الجديد" المواطن الأربعيني محمد العمار، وهو صاحب محل لبيع الألبسة الجاهزة، وقد استبدل دهان باب محله بدهن علم الثورة بدل علم النظام السابق، ووضع مكبرات صوت في محله وشغلها على أغنية للساروت "ثوري ثوري درعا". قال العمار لـ"العربي الجديد": "لا أزال أشعر أنني في حلم، نظام الأسد أذلنا، وجوّعنا، وأهان الكبير والصغير، وأصبح الاعتقال لأتفه الأسباب، لدرجة أصبحنا نتحاشى الخروج إلى الشارع إلا للضرورة". وأضاف: "أنا من محافظة درعا، ولكني ولدت هنا في دمشق، لدي قريب قتل فقط لأنه سأل عنصر أمن يقتاد شاباً من الحي عن سبب اعتقاله، فجرى اعتقال قريبي مع الشاب". وأضاف: "قال له العنصر: تعال لنعرفك شو عامل، واقتاده معه إلى المعتقل ومات تحت التعذيب". وعن رؤيته للنظام الجديد، قال العمار: "بالتأكيد سيكون أفضل ولن أفكر الآن بما سيأتي لأن الأسوأ قد ذهب".

إجراءات أمنية متفاوتة في دمشق وريفها

أما عن الإجراءات التي اتخذتها إدارة العمليات العسكرية في العاصمة، فقد نشرت أعداداً قليلة من عناصر الأمن العام الذين استقدمتهم من إدلب على أبواب الوزارات والمؤسسات الحكومية المهمة، وأمام المراكز الحيوية في العاصمة، وهم عناصر مدربون ومنضبطون، فيما نشرت بعض عناصر الشرطة الذين استقدمتهم من إدلب أيضاً في بعض الشوارع لتنظيم حركة المرور.

يثير دخول عناصر معارضين إلى مناطقهم لضبطها أمنياً مخاوف من عمليات انتقامية

أما في ضواحي دمشق وفي مدن وقرى ريف دمشق، فالوضع مختلف قليلاً لناحية الضبط الأمني. ففي المناطق التي شهدت عمليات تهجير خلال سنوات الثورة السورية للشمال السوري، استعانت إدارة العمليات العسكرية بعناصر سابقين وحاليين لدى فصائل عسكرية لا تتبع لـ"هيئة تحرير الشام"، من أبناء تلك المناطق، لضبط الوضع الأمني في مناطقهم، مثل داريا ودوما وسقبا وحمورية وغيرها، وهم عناصر ليسوا بذات الانضباط الذي يتمتع به عناصر الأمن العام. كما أن دخول هؤلاء العناصر إلى مناطقهم لضبطها أمنياً أثار مخاوف لدى بعض السكان من عمليات انتقامية من بعض القاطنين الذين مارسوا عمليات تشبيح أو عملوا مخبرين لدى الأجهزة الأمنية.

أما المناطق التي لم تشهد عمليات تهجير كبيرة، فقد أوكلت مهمة الضبط الأمني فيها لبعض اللجان الشعبية من أبناء المنطقة، ولكن بعضها يشهد عودة عناصر سابقين في فصائل المعارضة بشكل فردي يحملون سلاحهم للاستعراض أحيانا، وبعضهم لديه بيوت جرى الاستيلاء عليها من قبل عناصر جيش النظام والمليشيات التابعة له، قدموا لاسترداد بيوتهم، والعودة إليها أو تأمينها.

عادت المنتديات السياسية والثقافية للنشاط، كما بدأ يتشكل قسم كبير من الهيئات، وبعض الفرق التطوعية

في ريف دمشق الجنوبي، ما إن تدخل منطقة القزاز باتجاه السيدة زينب، حتى تفاجأ بالكّم الهائل من بقايا الحواجز العسكرية التي كان يقيمها النظام على طول الطريق، والتي أخبرنا محمد خير عبيد، من سكان منطقة السيدة زينب، أن عددها يفوق ثلاثين حاجزاً. وأضاف عبيد: كان طريق السيدة زينب عبارة عن ترسانة عسكرية، وممنوع على السيارات المدنية العبور منه، فقد جرى تحويل الطريق إلى طريق المطار، ولا يسمح سوى للسيارات العسكرية بالعبور، وللمدنيين الراجلين طبعاً بعد التوقف عند كل حاجز والتأكد من أن الشخص من سكان المنطقة". وتابع: "بعد سقوط النظام، لم يحصل أي فلتان أمني في المنطقة، ولكن كل السلاح الذي كان موجوداً في المنطقة اختفى، أما بعض السكّان الذين كانوا عناصر لدى بعض المليشيات أو عناصر لدى جيش وأمن النظام، منهم من هرب خارج المنطقة وأغلبهم التزم بيته".

وتابع عبيد: "منطقة السيدة زينب تحوي خليطاً متنوعاً من السكّان إضافة إلى السكان الأصليين أغلبهم من الجولان المحتل، والفلسطينيين السوريين، ومن محافظة إدلب"، موضحاً أن "المنطقة الآن تحتوي على كم هائل من السلاح بيد تابعي النظام البائد، الأمر الذي قد يؤدي إلى فلتان أمني لا تحمد عقباه في حال حصول أي احتكاك بين هؤلاء وبعض السكّان الذين هجروا من المنطقة في فترة الثورة، وعادوا الآن إلى بيوتهم التي استولى على معظمها عناصر تابعون للنظام، خصوصاً أن بعضهم استولى على بيوت معارضين وباعها لآخرين، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى إشكاليات قد لا تحمد عقباها في حال لم يجرَ تدارك الأمر وسحب السلاح وضبط المنطقة أمنياً، كون عناصر هيئة تحرير الشام لم يدخلوا إلى الآن بشكل رسمي إلى المنطقة، وأوكلت مهمة ضبط المنطقة للجان شعبية من أبنائها".

وفي جانب آخر من دمشق، لا تزال الكثير من العائلات تبحث في مخلفات الأفرع الأمنية وبعض الأماكن التي يبلّغ عن وجود جثث فيها عن مصير أبنائها المفقودين، علّها تجد بصيص أمل بوجودهم على قيد الحياة أو الوصول إلى مكان رفاتهم على أقل تقدير.

وبالعودة إلى المشهد العام، هناك شعور عام بتفجر طاقات سكان العاصمة بعد سقوط النظام، كل من مكانه. فقد عادت المنتديات السياسية والثقافية للنشاط، كما بدأ يتشكل قسم كبير من الهيئات والتيارات، الفكرية والسياسية والفنية والاقتصادية، وكذلك بعض الفرق التطوعية، منها الذي يعمل على تنظيف شوارع المدينة وحدائقها ومنها الذي يجمع التبرعات لتلبية الاحتياجات الهائلة التي تحتاج سنين من العمل والتكاتف.



إقرأ المزيد